اقتراحات للإصلاح الاقتصادي والمالي والمصرفي في لبنان
زياد حافظ _
كنّا في سلسلة من المقالات والأبحاث عرضنا فيها الخطوط العريضة للخيارات والسياسات المطلوبة في مشروع إصلاح الاقتصاد اللبناني. ومن الواضح أنّ أيّ خطّة تقدِم عليها الحكومة اللبنانية المرتقبة هي خطة ثلاثية الأضلاع. فالإصلاح يتطلب في رأينا إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني، أيّ التحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي. لكن تلك الهيكلة لا يمكن أن تتمّ قبل تصحيح وضع المالية العامة وخاصة إعادة هيكلة الدين العام، فذلك هو الضلع الثاني. وتلك الهيكلة تطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي الطرف المسبّب والشريك في الأزمة المالية والاقتصادية التي وقع فيها لبنان، وذلك هو الضلع الثالث. لن نعود إلى شرح الأسباب والترابط بين تلك المحاور بل سنركّز على الخطوات العملية التي يجب أن تقوم بها الحكومة اللبنانية المرتقبة خلال الأشهر الستة المقبلة.
أولاً – في الخيارات والسياسات
أ ـ الخيارات
في ما يتعلّق بالخيارات نؤكّد ضرورة الانفتاح على الشرق بدءاً من سورية ووصولاً إلى الصين. والانفتاح على الشرق لا يعني بالضرورة القطيعة مع الغرب بل الانخراط في الأساس في محور اقتصادي صاعد وهو الكتلة الأوراسية وخاصة برنامج طريق الحرير الجديد أو الحزام الواحد والطريق الواحد. الغرب، عبر المبادرة الفرنسية، لن يستطيع تقديم كلّ ما يمكن أن تقدّمه الصين، وبالتالي يستطيع لبنان الاستفادة من الطرفين في آن واحد. لكن الخطوة الأولى تبدأ بالانفتاح على سورية لتصحيح وضع شاذ مثّلته القطيعة الحكومية مع الدولة السورية تحت شعار النأي بالنفس. فملف النازحين وملف الترانزيت وملف السوق السوري ومن خلاله السوق العراقي والأردني والخليجي والسوق الإيراني ضرورات حيوية للاقتصاد اللبناني. ولا نعتقد أنّ هناك ضرورة لشرح تلك البديهية. المصلحة الوطنية والأمن القومي يتطلّبان تحقيق ذلك الانفتاح في أسرع وقت ممكن وقد تكون زيارة رئيس الحكومة إلى سورية من أولويات عمل تلك الحكومة.
ب – السياسات
السياسات التي يجب ان تتبعها الحكومة هي على عدّة مستويات. المستوى الأول هو لإعادة الاعتبار للقطاع العام عبر تحديث الإدارة. هذا مشروع طويل المدى ولكن يجب أن يبدأ. يمكن التركيز في المرحلة الأولى في قطاع الصحّة والتربية عبر توسيع رقعة التطبيب والاستشفاء وعبر زيادة عدد المدارس الرسمية والقطاع التعليمي.
المستوى الثاني هو في السياسة المالية. الحكومة مدعوّة إلى سياسة إنفاق في إعادة تأهيل البنى التحتية المترهّلة في قطاع الكهرباء والمياه والمرافق العامة كالمدارس والجامعة الوطنية والمطارات والطرقات ووسائل النقل. هذه السياسة ترتكز إلى تخفيض خدمة الدين العام لمستويات متدنية لا تتجاوز 5-8 بالمائة من الموازنة، ما يفرض حتماً إعادة هيكلة الدين العام الذي نقاربه في مقطع خاص. سياسة إعادة الاعتبار للقطاع العام سياسة طويلة المدى ولن تنجز في غضون أشهر لكن يجب أن تبدأ خلال فترة وجيزة جدّاً. من هنا نرى من الضروري إعادة تفعيل وزارة التخطيط المركزي.
ثانياً – إعادة هيكلة الدين العام
أيّ مشروع لإنعاش العجلة الاقتصادية من قبل الحكومة يتطلّب إصلاح المالية العامة وخاصة إعادة هيكلة الدين العام. فلا استثمارات في البنى التحتية والمالية العامة تذهب لخدمة الدين العام. أما مبادئ إعادة هيكلة الدين العام فيجب ان تعتمد مبدأ العدل في تحمّل مسؤولية وعبء الدين، وثانياً فهم الإمكانيات لتسديد الدين العام فقط للحفاظ على حقوق المودعين في المصارف. فقضية الدين العام أصبحت متلازمة مع مصير الودائع في المصارف التي خرجت عن أبسط قواعد المحافظة على الأموال المؤتمَنة لديها. بناء على ذلك لا يجب أن تكون خدمة الدين تتجاوز 5-8 بالمائة من مجمل الموازنة لتحرير الأموال للاستثمار في البنى التحتية. هذا يفترض أولاً إطفاء ما يمكن من رأس مال الدين الأساسي، وثانياً إعادة جدولة الدين إلى فترات طويلة، وثالثاً تكون السندات الجديدة بفوائد منخفضة يمكن التفاهم عليها بين الحكومة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي. كما لا يجب على المكلّف اللبناني وخاصة من الطبقة الوسطى والفقيرة أن يتحمّل أيّ قسط من إعادة هيكلة الدين والمالية العامة عبر زيادة في الضرائب أو عبر رفع الدعم عن المواد الأساسية. من يتحمّل العبء هو من استفاد من الدين فقط لا غير من مودعين كبار ومن سياسيين ومضاربين ورجال أعمال وكلّ مشتبه بالفساد. هذه النقطة تكون موضع نقاش بين الحكومة والقوى السياسية الداعمة للحكومة.
وجهة نظرنا أنّ العبء الأكبر في تحمّل عبء إعادة الهيكلة للدين العام تقع على القطاع المصرفي على الأقلّ بنسبة 50 في المائة وعلى الدولة اللبنانية بالمناصفة بين ميزانية الدولة وميزانية مصرف لبنان. صحيح أنّ الأخير جزء من الدولة ولكن سلوك مصرف لبنان كان ولا يزال كأنه خارج الدولة. وإعادة هيكلة مصرف لبنان من ضمن رزمة الإجراءات التي يجب ان تتخذ في إعادة هيكلة القطاع المصرفي. هذه المبادئ يجب أن تكون في صلب السياسة المتبعة من قبل الحكومة في مفاوضاته مع المؤسسات المالية الدولية التي تزعم أنها مستعدّة لتقديم المساعدات المالية.
السياسة المالية التي ستعتمد إعادة هيكلة الدين العام ترافقها سياسة تقديم خدمات للمواطن وليست سياسة تقشّف التي يدعو لها صندوق النقد الدولي. هذه السياسة تستدعي مناقشة في العمق وفقاً لرؤية تخطيط مركزي يعبّر عن أولويات المرحلة وفي ما بعد أولويات النهوض والتنمية المستدامة والمتوازنة في المناطق وبين القطاعات الاقتصادية.
ثالثاً – إعادة هيكلة القطاع المصرفي
إعادة هيكلة القطاع المصرفي قد تكون أصعب وأدقّ من إعادة هيكلة الدين العام والاقتصاد اللبناني لتداخل العامل السياسي والمالي في آن واحد. ليس هنا المكان لمقاربة ذلك الوضع بل لتقديم اقتراحات لتحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول هو إعادة الثقة للقطاع المصرفي بشقّيه الرسمي، أيّ حاكمية مصرف لبنان، والخاص، أيّ جمعية المصارف اللبنانية. فسلوك المسؤولين عن القطاع المصرفي قضى بشكل واضح على مصداقية القطاع المبنية في الأساس على الثقة بين المودعين والمصارف. فهذه الثقة مفقودة بسبب سلوك المصرفيّين، ولا بدّ من إعادة بنائها، علماً أنّ تلك العملية قد تكون طويلة إنْ لم تكن مرفقة بإجراءات جذرية. وبما أنّ المزاج العام السياسي للقوى السياسية الفاعلة لا يريد الدخول في إجراءات جذرية فالاقتراحات التي نقدّمها قد يطول تطبيقها أو أن لن تطبّق إلاّ بالإكراه الخارجي إنْ غابت عن الطبقة السياسية الحكامة الرغبة أو القدرة على ذلك. لكن بغضّ النظر عن هذه الملاحظات التي تعكس الواقع المرّ فإنّ الإجراءات التي ندعو إليها هي كالتالي:
أ – إعادة النظر في طاقم حاكمية مصرف لبنان والمؤسسات التابعة لها.
ب – إعادة النظر في السياسة النقدية كي تكون متجانسة مع السياسة المالية.
ج – إعادة النظر في عدد المصارف ليكون متناسباً مع حجم الاقتصاد اللبناني.
د – إعادة النظر في تكوين رأس المصارف ليكون متناسباً مع حاجيات التمويل المطلوب لدفع الاقتصاد الوطني.
ه – إعادة النظر في نوع المؤسّسات المالية المطلوبة للتركيز على مؤسّسات التمويل المتوسّط والطويل الأجل في مختلف القطاعات الإنتاجية.
لكلّ من تلك الإجراءات تفاصيل تُعرض عند الحاجة.
رابعاً – إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني
الهدف من إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني هو لنقله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي متنوّع القطاعات ومتنوّع في المناطق اللبنانية وبغية جعله قادراً على التشبيك الاقتصادي مع دول الجوار. وبما أنّ الإجراءات التي يجب اتخاذها طويلة المدى وتفترض المتابعة كما أنها تفترض التنسيق المتكامل بين مختلف القطاعات فلا بدّ من إعادة الاعتبار وتفعيل وزارة التخطيط المركزي. فالحكومات بطبيعتها تتغيّر بينما المخطّطات المركزية أكثر استدامة واستقراراً وإنْ كانت قابلة للتعديل وفقاً للمتغيّرات. فوزارة التخطيط تضع الأولويات التي من خلالها يتمّ ترسيم السياسات القطاعية والمالية والنقدية حيث الانسجام والتكامل من الضرورات لإنجاحها.
إنّ التحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي يتطلّب في المرحلة الأولى تخفيف الاتكّال على الريع الذي تشكّله الفوائد المرتفعة وغير المبرّرة اقتصادياً ومالياً ونقدياً على سندات الخزينة والتي تحدّ من التوظيف والاستثمار في القطاعات المنتجة. كما أنّ إعادة النظر في الاحتكارات الشرعية عبر إعادة النظر بالوكالات الحصرية التجارية وغير الشرعية التي تتحكّم في العديد من المرافق الاستيرادية والأملاك العائدة للدولة، فهذه الإجراءات تساهم في تخفيف إنتاج الريع المدمّر للاقتصاد الوطني.
أما الإجراءات العملية لتحقيق ذلك التحوّل فقد عُرضت سابقاً وتهدف إلى تشجيع القطاع الزراعي والصناعي وخاصة الصناعات التحويلية الخفيفة، والقطاع السياحي، والبناء، وقطاع الخدمات خاصة تلك التي تُنتج قيمة مضافة مرتفعة كالتربية والاستشفاء إضافة إلى فوائدها الخاصة بالتربية والصخة بشكل عام. كما لا بد من الاستثمار في البحوث والعلوم والتكنولوجيا عبر المشاركة الثلاثية بين القطاع العام والجامعة الوطنية والقطاع الخاص.
خامساً – في مكافحة الفساد
الفساد أصبح نظامياً ومؤسّسياً في لبنان وعبئاً على الاقتصاد الوطني. مكافحة الفساد لا تقلّ صعوبة عن تحرير الأرض من الاحتلال بل ربما أصعب لأنها تتطلّب عملية وعي وتربية وسلوك. ومكافحة الفساد تتطلّب أيضاً إصلاحاً في القضاء لتمكين استقلالية القضاء غير أنّ ذلك من الصعب ان يتمّ في ظلّ نظام طائفي يلغي المواطن وبالتالي يهمّش القضاء. لذلك فإنّ عملية مكافحة الفساد قد تنتج عن إصلاح في النظام السياسي يلغى الطائفية كقاعدة للتعامل السياسي ويؤمّن استقلالية القضاء. الخطوة الأولى تكمن في إعداد قانون جديد لانتخابات برلمانية خارج القيد الطائفي على قاعدة النسبية وضمن الدائرة الواحدة.
سادساً – الإجراءات الفورية
هذه الإجراءات بطبيعتها تتطلّب فترات زمنية طويلة نسبياً قبل أن تظهر نتائجها الملموسة. فليس هناك من حلول سحرية تنقل الواقع المنهار إلى واقع نهوض. لكن هذا لا يمنع أن تُتخذ سلسلة من الإجراءات ذات الطابع الفوري التي تنذر بانفراجات اقتصادية ومالية. العامل النفسي مكوّن أساسي لإعادة الثقة بين السلطة والمواطن وبين الدولة والمجتمع الدولي الذي يدعو إلى إصلاحات ترافق المساعدات.
أولى الإجراءات الفورية إعلان خطة عملية مفصّلة ومتكاملة للإصلاح في مختلف المرافق الاقتصادية مع الشروع في البحث في الإصلاح السياسي لتمكين عملية الإصلاح والنهوض الاقتصادي. كما أنّ الشروع بإعلان إعادة الاعتبار لوزارة التخطيط تعطي مصداقية لتلك الخطة أو أيّ خطّة يمكن الاتفاق عليها. فإعادة الاعتبار للتخطيط مؤشر قاطع لمصداقية عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي. فهي ستكون مسؤولة عن إعداد الخطط التفصيلية للخطة العامة المطلوبة.
ومن ضمن الإجراءات الفورية التفاهم مع الحكومة العراقية والسورية لإعادة فتح مصفاة طرابلس لتوفير المشتقات النفطية المطلوبة. كما أنّ التفاهم مع الحكومة السورية في موضوع النازحين والحدود له مردود سريع نسبياً على البيئة السياسية والاقتصادية في آن واحد. من جهة أخرى يمكن للحكومة تجاوز المؤسسات الوسيطة التي تقوم بتزويد لبنان بالمستلزمات النفطية وبالتالي التخفيف من الأعباء المالية المرتبطة بالتمويل بالدولار.
على صعيد آخر يمكن التعاقد مباشرة إما مع شركات فرنسية أو ألمانية أو صينية لبناء وإعادة تأهيل المرافق العامة منها المرفأ ومعامل الطاقة والمياه وذلك لتأمين الكهرباء بشكل مستمرّ وعلى جميع المناطق وذلك ضمن فترة بضعة أشهر أو سنة ونصف على أبعد التقدير.
كما يمكن إصدار تعميمات بعدم التعامل داخل لبنان بالعملات الأجنبية وحصر التعامل بالليرة اللبنانية. فالابتعاد عن دولرة الاقتصاد اللبناني خطوة أولى في تخفيف الطلب على الدولار ويعيد الاعتبار للسياسة النقدية للبلاد ويؤمّن قدراً ملحوظاً من الاستقلالية في القرار النقدي.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي