رواية «مدن ونساء».. مقارباتٌ لوقت مستقطَع!
} محمد رستم*
يتلمّس القارئ في الأديب عيسى إسماعيل وسم مرويّته الجديدة «مدن ونساء»، ومن باب التعريف أقول إنهما مفردتان نكرتان جمعهما برابط حرف العطف الواو، والواضح أن عتبة كهذه يتكاثف فيها الكثير من الغموض الدلالي، فكلمة مدن هي جمع مدينة مكان سكني بالبشر في حالة من التحضّر، وأما نساء جمع مفرده امرأة (حواء) بكل ما تعنيه هذه المفردة من إغواء، بهاء، معاناة، سلوك سلبيّ وإيجابيّ..
والعنونة كما نعرف هي العتبة الأولى للمنجز وبيت سرّه، وقد جاء بها الكاتب مركّزة تستبطن كثافة تعبيريّة. إذ تقوم على عطف مقطوع عمّا حوله، وبذا يتّكئ على أحداث المرويّة لتوضيح معناه الذي ينحو جهة الجمع بين طرفي العطف في المماثلة بين المدن من حيث كونها امتدادات ماديّة وبشرية وبين النساء مخلوقات الله الأجمل..
قدّم الكاتب مرويّته بإهدائها إلى زمن الطفولة والفتوة بما يشي بحنين صادق للأيام الخوالي، وهذا طبعاً تحت تأثير خوابي الذاكرة التي تعتّق أحداث الماضي إذ تبدو مغمّسة بطيب الحنين فيلين القاسي ويعذب الكدر..
وما يسمّيها الكاتب رواية هي في الحقيقة أقرب إلى القصة، فقلة الشخصيّات الفاعلة وتضييق زوم الرؤيا للراوي من حيث شموليّة التصوير وقلة الخيوط المتشابكة يحيل المنجز إلى نوع (القصة) ولعل التنويه في أول القصة بأن أحداث هذه الرواية وأسماء شخصيّاتها من الخيال المحض يومئ إلى واقعية بعض أحداثها.
تندرج هذه القصة تحت عباءة الواقعيّة الاجتماعيّة الوصفيّة، ولعلّ ما يعطيها رافعة متينة هو تناولها قضيّة هامة ومشكلة حسّاسة يعاني منها مجتمعنا وهي الزواج المبكّر والذي كثيراً ما يحدث في مرحلة ما قبل النضج الفكري والنفسي..
«عبير» في القصة من أسرة تمنح الفتاة هامشاً من الحريّة في اختيار الزوج، لكنّها في مرحلة بداية البلوغ هي في (الصف العاشر) وبالتالي هي مراهقة غير ناضجة فكريّاً واجتماعياً وحتى جسديّاً وقد تستسلم لأول نسمة عشق تهز أغصان عواطفها، وفكرة الزواج في مخيلتها لا تتعدّى الأحلام العشقيّة والملذات العاطفيّة..
لذا فقد عقد العشق خيوط علاقتها مع ماهر بأصابع ناعمة وألوان خلّاقة ورسم للعاشقين درب الحياة على خريطة الطيف الواعد، المتخم بالفرح وبكل ألوان السعادة. لكن تلك الخيوط سرعان ما تقصّفت عندما هبّت عليها عواصف الواقع. فمنعطفات الحياة القاسية والإجبارية سرعان ما تمحو عسل وهم المراهقة لتستحيل الأحلام والأمنيات الحارة والمغمّسة بالفرح باردة، مثلّجة وسمجة..
فحين يلفحها صقيع الواقع ما كان ساحراً حاراً يغدو عاديّاً، بارداً مملاً، حتى الجنس (جزرة الغواية) يغدو رتيباً ثقيلاً.
وهكذا تحوّلت الحياة عند عبير وماهر من عشقيّة رومانسيّة حلميّة إلى واقعيّة روتينيّة، عبر الكاتب عن هذه الحالة بقوله (محبّة العرس لا تدوم).. لهذا فجاء سؤال عبير عن نتيجة طبيعية: ماهر أما زلت تحبّني كما كنت بالقوّة نفسها؟
في الحالة العاديّة يتحوّل الحبّ العشقي بين الشريكين إلى محبة واحترام وألفة وتغمرهما الواجبات الأسرية ويغشى نظرهما نور الأولاد، وأما «عبير» وماهر فأمرهما مختلف، إذ اعتبرت «عبير» ان زواج ماهر من أخرى خيانة موصوفة وسلوك منافٍ للحشمة وغير قابل للصرف، لأنّه جريمة ثلاثيّة الابعاد، فانعدم ملبس الفرح في حياة الأسرة، وتوقفت العلاقات عند شارات النكد بعد أن غدت النفوس محافظ حبلى بالكراهيّة ومما زاد الطين بلّة إدمان ماهر على المخدرات..
وإذا كان العشق زاد الزواج الأول لعبير، فإن زواجها الثاني قائم على الطمع والحسابات الخاطئة بغض النظر عن غياب التكافؤ العمري والمزاج المختلف، فإن المال والجاه والأملاك هي زوّادة هذا الزواج المتسرّع، فجاءت النتيجة كارثيّة.
فبعد إخفاق تجربتها مع ماهر أدركت عبير أن عليها تحكيم عقلها لا قلبها فأعرضت عن عبدو العليّان مع أن العلاقة بينهما كانت قد قطعت شوطاً لا بأس به من الاستلطاف والحب الحقيقي، فعبدو ليس من ثوبها (كناية عن طبقتها الاجتماعيّة) ومن خلال زجاج محنتها المغبّش تختار زواج المصلحة. فاعتبرت عرض الزواج الجديد فرصة لها وإن كان العريس أكبر منها سناً بفارق كبير، إلا أنّه من ثوبها ومن شلّة (المسؤولين) التي ينتمي لها أبوها..
ولعل الكاتب يشير هنا إلى أن فئة المسؤولين باتوا يشكلون طبقة اجتماعيّة بعينها..
هذا وقد اعتمد الكاتب التسميات ليشير إلى الطبقة الاجتماعية، فعبدو العليان ينتمي لطبقة الكادحين الريفيّة، بينما يشير اسم عبير العابد إلى الطبقة الثريّة فللكنية هنا دلالة طبقيّة..
وتناول الأديب عيسى إسماعيل الموضوع بشكل نأى فيه عن مضغ المألوف حين نقله إلى عالم فنّي جميل، ومن الملاحظ أن الكاتب لم يكشف أنّ لعلاقة ماهر مع النساء ألف باع وباع، وأنّ له في كل مكان يحلّ فيه أنثى جديدة فهو زير نساء مقنّع.
هذا وقد جهد الكاتب ليدخلنا في حالة الإيهام الفني وذلك بالتأكيد على واقعيّة قصته (خلافاً للتنويه الوارد في المقدمة) وذلك بالتّأكيد على واقعيّة قصته، فأورد الكثير من أسماء الأماكن والأشخاص والأحداث الواقعيّة حتى بدت القصة وكأنّها تتخفف من التخيّل لمصلحة الواقع. فذكر اسم بوش رئيس أميركا، احتلال العراق، الرئيس حافظ الأسد يهنئ الرئيس الهراوي، إياد غزال محافظ حمص، حلم حمص، حتى جنحت القصة نحو الواقعيّة الفجة أحياناً، (تنقل لكم الأخبار نهلة السوسو).
هذا وقد حاول الكاتب نقل التحولات الاجتماعيّة والفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي حدثت في سوريّة، لكنّه أخفق في مزج الهم العام (الهم الوطني والقومي ) بالهم الشخصي (أحداث القصة )، فظل الهم العام يرد كإعلان ملصق على جدار القصّة من خارج الأحداث. فيرد أحياناً كتداعي خواطر. وقد ينسلّ من رحم كلمة ما من دون أن يكون متأثّراً بخيوط الأحداث الأساسيّة للقصة. (ص 26 كذلك ص27) إذ يلج الكاتب القضايا القوميّة من خلال خارطة الوطن العربي ومن دون سبب مقنع، هذا وقد أدار الكاتب دفّة الأحداث تحت غطاء السارد العليم وتلطّى برداء الذكريات حيناً واستجار بالمونولوج الداخلي حيناً آخر. وسار بالزمن السرديّ وفق خطين خط المذكرات التي كتبتها عبير وخط السرد الأساسي للأحداث بتراتبيّتها الزمنيّة، وكلعبة قصصيّة ناجحة عمد الكاتب إلى اقتطاع الفصل ما قبل الأخير ووضعه في أولها كي تبدو القصة وكأنّها تعتمد الخطف خلفاً أسلوباً لها.
وفّق في مشابهة عبير لدمشق إذ تشتهر دمشق بعبير الياسمين (مشابهة بين دلالة الاسم والمدينة) وتشبيه ليلى بمدينة الرياض فليلى دال مقرون بالليل بالسوداوية والظلم، وهكذا كانت بالنسبة لعبير. وإذا أسقطنا البعد القومي على الشخصيات، فيمثل ماهر البعد القومي، يأتي ارتباط عبير به طبيعياً، بينما جاء ارتباط ليلى هامشيّاً عرضيّاً ارتباط مصلحة. فليلى كانت له الداعم الماديّ.
وقد اعتمد الكاتب العنونات المتعدّدة لكسر رتابة التسلسل الزمني ولسهولة الانتقال بالزمان والمكان فقسّم القصة إلى تسعة عشر مقطعاً، كما جاءت القفلة مفاجئة صاعقة مناوئة واختارها مأساوية ليترك أثراً عميقاً في أعماق القارئ، كما ترك بعض خيوط القصة متفلّتة ليبقى القارئ في دوامة أسئلة تشدّه.. لمَ قتلت «عبير»؟
* كاتب سوري.