البحر المتوسط في مرحلة تحاصص جديدة؟
} د. وفيق إبراهيم
مناورات عسكرية تركية في مياه البحر المتوسط وسواحل الجزء التركي من جزيرة قبرص مقابل تهديدات أوروبية تتجسّد بعشرات البوارج الحربيّة والطائرات المقاتلة.
هذا الى جانب تحريك قطعات عسكرية يونانية على الحدود مع تركيا مقابل تكثيف عسكري تركي مجابه.
هذا ما يجري في مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث تمخر خلاله يومياً عشرات البوارج الروسيّة والأميركية في دور «وصاية» للاطمئنان على استمرار التوتر.
هذا الوضع يشجع على الاعتقاد بأن حرباً قاسية على وشك الاندلاع في هذا البحر، خصوصاً في الجزر اليونانية التي لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن سواحل تركيا من جهة وأكثر من ثمانية كيلومترات عن سواحل بلاد الأغريق وقبرص وليبيا بحراً وبراً.
هنا في هذه المناطق ينتشر الأوروبيون والأتراك بشكل مباشر عبر قوى عسكرية اصلية وحليفة.
لماذا احتمالات نشوب حرب قاسية أو تحاصص برعاية أميركية روسية تتساوى في هذه المرحلة؟
المؤشر الأول ورد في تصريح يشبه النداء الأخير اطلقه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، دعا فيه وبحرّية المتغطرسين الى اقتسام ثروات المتوسط بين قواه «بطريقة عادلة»، مضيفاً بأن تركيا تمتلك اكبر ساحل على البحر المتوسط بما يؤكد أنه يريد حصة تتلاءم مع نسبة سواحل بلاده من سواحل المتوسط، مضافة اليها سواحل قبرص التركية الشمالية، وحصة دولة حليفه الاخواني السراج في ليبيا.
بذلك يحظى العثمانيون الجدد بأكبر كمية ممكنة من الاسهم البحرية من الغاز والنفط مضافة اليها سيطرته العسكرية على قسم من شمالي سورية وغربها وحركة الاخوان المسلمين فيها ما يبيح له البحث عن دور سياسي فيها، وبالتالي الحق في حصته من ثرواتها المتوسطية والداخلية.
ما ينطبق أيضاً على العراق الذي ترابط في بعض مناطقه الشمالية كتائب تركية توجه طيران بلادها لقصف وحدات كردية معادية لها في جبال كردستان.
ضمن هذه الاجواء تتبارز تركيا من جهة واليونان وقبرص الجنوبية وفرنسا من جهة ثانية بعروض قوة تتجلى في مناورات عسكرية بحرية ضخمة تحتاج الى رصاصة واحدة مصوّبة بشكل حقيقي حتى تندلع حرب تشمل النواحي الشرقية من البحر المتوسط وسواحل ليبيا والحدود اليونانية التركية والفاصل بين قبرص اليونانية والتركية والسواحل البحرية التركية المواجهة لعشرات الجزر اليونانية، هذا الى جانب معارك جوية وبحرية محتملة بين فرنسا المدعومة اوروبياً وقوات تركية موازية.
اما الاميركيون والروس فمصالحهم أن تستنزف قوى هذه الحرب إمكاناتها فيضبطونها فارضين عليها تسويات حسب النتائج الأولية للمعارك، انما على قاعدة ان الحصة هي للراعيين الاميركي والروسي.
لجهة ضحايا هذه الحرب فهم القبارصة بجزءيهما اليوناني والتركي، والليبيين والعرب المنتشرين على سواحل البحر المتوسط.
لماذا؟
استناداً الى موازين القوى العسكرية فإن تركيا الغربية من قبرص واليونان بوسعها السيطرة على مناطق النزاع لامتلاكها اقوى قوة عسكرية في الشرق الاوسط بعد «إسرائيل» ولن تتمكن اوروبا من ارسال قوى عسكرية ميدانية بل تكتفي بقصف جوي وبحري لن يكون قادراً على إعادة الأتراك الى بلدهم.
ماذا تريد تركيا؟
تبدو القيادة التركية الحالية بصدد تطبيق مشروع لإلغاء هزيمة بلادهم التاريخية أمام أساطيل أوروبية في المتوسط عام 1571.
كما تسعى لإلغاء النتائج السياسية التي ترتبت على هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الاولى وخصوصاً معاهدة «سيفر» 1923 التي منحت اليونان، التي كانت مستعمرة عثمانية، جزراً تلتصق بسواحل تركيا ولا تبعد عنها أكثر من كيلومترين في بعض الحالات.
لذلك تنكشف السياسة التركية بأنها تسعى الى اعادة نفوذ بلادها بدءاً من كركوك في العراق الى حلب في سورية وصولاً الى منطقة ادلب وبعض الساحل السوري الملتصق بها انطلاقاً الى ليبيا، حيث يزعم الاتراك ان اكثر من مليون نسمة من سكانها هم من أصول تركية.
كما تعمل على تجذير نفوذها السياسي – الايديولوجي في تونس ومصر وبعض أنحاء اليمن مستفيدين من الاضطراب المتفشي في دول العالم العربي والإسلامي لإعادة نشر نفوذها التاريخي، بما فيه من نفط وغاز، يؤكد ان المشروع التركي هو استعماري – ايديولوجي ولاهث وراء مصادر الطاقة ليندفع من القوة الإقليمية الى مصاف القوى الدولية الوازنة.
وهذا ما لا تريده اوروبا ولا يسمح به الأميركيون والروس، اما العرب فلا حول ولا قوة إلا شيء من الابتهال والتطبيع مع «اسرائيل» لتأمين المزيد من حماية انظمتهم كما يزعمون. فيما يسارع الاتراك الى الاستفادة من صراع المحاور الدولية الروسية والأميركية والأوروبية لترسيخ مشاريعهم الجيوبوليتيكية مستفيدين من الحصار الاميركي الخانق حول ايران وسورية، وحاجة الروسي الى مهادنتهم في أكثر من مكان لاستيعاب العدوانية الأميركية، تماماً كحاجة الاميركيين اليهم لوقف الاندفاعة الروسية – الصينية.
هل تتحقق الأحلام التركية او الأوروبية في مياه البحر المتوسط؟
الملاحظة الاولى هي أن المتصارعين على ثروات هذا البحر هم من ذوي الهوى الاميركي والمحسوبين جيوبوليتيكياً على واشنطن، فأوروبا وقبرص واليونان وتركيا ودولتا السراج وحفتر في ليبيا، كلها قوى لديها مرجعية اميركية واحدة، ما يعني انه قتال داخل البيت الأميركي انفجر في مرحلة تراجع النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط ويريد بالتالي تحسين مواقعه قبل بدء التقدم الروسي الصيني الإيراني في ميادينه.
لكن ما يعرقل الحركة الاميركية نحو فرض تحاصص بين حلفائها هي الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني المقبل.
وهذا يعني أن التحاصص على المتوسط مرجأ الى بضعة اشهر مقبلة وسط إصرار اميركي روسي على تجميد إمكانية اندلاع حروب كبيرة مع السماح بعروض قوة وحروب إعلام مضبوطة الى حدود دقيقة جداً تمنع الأتراك والأوروبيين من حسم النزاع والتحول الى قوى دولية وازنة لا يحتملها لا الروس ولا الأميركيون.