اتفاق الضرورة والرسائل الأميركية الروسية

} د. حسن مرهج

مجلس سورية الديمقراطية أو ما يُعرف اختصاراً بـ «مسد»، يُعدّ الذراع السياسي لقوات سورية الديمقراطية «قسد»، والمدعوم كلياً من قبل الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنّ هذا التفصيل لم يمنع «مسد» وبموافقة ضمنية من «قسد»، من التوجه إلى موسكو، حيث يقيم أمين عام حزب الإرادة الشعبية قدري جميل، فقد وقَّع الطرفان مذكرة تفاهم بنقاط واضحة وقليلة الالتباس، ويبدو أنّ الطرفين لم يرجئا بعض النقاط إلى مرحلة لاحقة على جري العادة، حين تقوم أطراف معارضة بالاتفاق على وثيقة تحالف أو عمل مشترك أو انضمام، والمآلّ أن وثيقة «مَسَد» والإرادة الشعبية بدت أقرب للمواثيق التي تأخذ بالوقائع وتتجاهل التفاصيل، وتحديداً مع حالة التجاذب السياسي والعسكري في شمال شرق سورية.

قبل الدخول في ماهية الاتفاق وأبعاده وتداعياته على مستقبل شمال شرق سورية تحديداً، ينبغي القول بأنّ واشنطن لم تكن بعيدة عن مضامين هذا الاتفاق، وبمعنى أوضح، يمكننا القول بأنّ اتفاقاً روسياً أميركياً هَندس هذا الاتفاق، ليخرج بهذه الصورة التي لم تُثر حفيظة دمشق، أو تعلق عليه، ما يعني أنّ مُخرجات هذا الاتفاق بكلّ جزئياته، لم تكن بعيدة عن السيادة السورية ولا حتى عن توقيت دمشق.

موسكو من جديد هي عرابة الحلّ السياسي في سورية، شاءت واشنطن ذلك أم أبت، إذ لا تُعدّ القوات الأميركية في سورية، والهيمنة الأميركية سياسياً على جُلّ القرارات المتعلقة بالشأن السوري، ومن جهة ثانية، الاتفاق الأميركي الكردي وبجميع حيثياته، كلّ ذلك لا يُعدّ خارج التوقيت والزمان الذي تُريده دمشق، ففي لحظة وُصفت بأنها اتفاق أميركي روسي في المضمون والأهداف، خرج مسار جديد يُمكن البناء عليه في المستقبل القريب، حيال تعزيز سلطة الدولة السورية في المناطق التي تسيطر عليها «قسد».

في عمق هذا الاتفاق أيضاً، هناك هواجس كردية جمّة، فالتجارب التي خاضها الكرد مع الأميركي، كفيلة بأحد الأوجه أن يتمّ توزيع البيض على سلال مختلفة، وعلى اعتبار أنّ القرارات الأميركية وتحديداً في زمن ترامب، لم تتخذ نمطاً ثابتاً في التعامل مع الحلفاء، بل على العكس، خاصة أنّ قرارات ترامب اتّسَمت بغالبيتها بالكثير من الرعونة وطعن الحلفاء، ولعلّ الأمثلة القريبة على ذلك، تتجلى في التخلي الأميركي عن الكرد في عفرين، إبان الهجوم التركي عليهم في إطار ما سُمّي «غصن الزيتون»، وعليه فإنّ الكرد ومن منطلق استراتيجي وضعوا ورقة في بوتقة روسيا، وسيتمّ العناية بها ريثما تتضح جُلّ النوايا الأميركية تجاه الكرد ومشروعهم في شمال شرق سورية.

الإطار العام لهذا الاتفاق يُعدّ ترجمة واضحة لاتفاق أميركي روسي حيال شرق الفرات، وبصرف النظر عن التحليلات التي تواكب الاستراتيجية الأميركية في سورية، إلا أنّ مشهد شمال شرق سورية يُعدّ صراحة ملعباً سورياً روسياً لا يُمكن السماح للأميركي بالعبث به أكثر من ذلك، الأمر الذي يُفسّر، تصاعد التوتر بين القوات الأميركية والروسية في المنطقة والذي عبّر عن نفسه أكثر من مرّة من خلال اعتراض كلّ طرف للدوريّات العسكرية التابعة للطرف الآخر، وقد أدّت آخر حادثة اعتراض إلى وقوع إصابات في صفوف القوات الأميركية، الأمر الذي يشير إلى خطورة التوتر الحاصل وإمكان انفلاته من قدرة الطرفين على ضبطه بموجب تفاهم منع الصدام الموقع بينهما منذ العام 2017، فكان لا بدّ من إيجاد مخرج ما، يكون بمثابة حفظ ماء الوجه الأميركي، لكن بذات التوقيت يبقى لواشنطن تأثير ظاهري لكنه ضمن مُحدّدات دمشق وموسكو.

في مجمل الأحوال، التفاهم بين طرفين تدعمهما كلاً من روسيا والولايات المتحدة، لا يعدو تفصيلاً في سلّة التفاهم بين الجانبين، ذلك أنّ الجانبين المتفاهمين يرميان إلى توسعة القطب المعارض، الذي يعمل خارج قوس المصالح التركية، وتدوير بعض زوايا تحالفاتهما الدولية مع أنّ الافتراض كان ليقودنا إلى صعوبة حصول تفاهم بين حزب الإرادة الشعبية المدعوم روسياً، و«مَسَد» المدعومة أميركياً، والمفارقة أنّ ورقة التفاهم شدّدت على إنهاء الاحتلالات في إشارة واضحة إلى الاحتلال التركي، وضمناً القوات الأميركية في سورية، لكن ورغم تعدّد الآراء والشروحات تبقى تركيا هي الدولة الوحيدة التي أشار إليها الطرفان بوصفها قوّة محتلّة رغم عدم قول ذلك جهاراً، وبطبيعة الحال، فهمت تركيا معاني عقد وثيقة تأسيسية بين من تصنّفه أنقرة إرهابياً، الأمر الذي حدا بالقيادة التركية إلى مخاطبة موسكو كجهة راعية للاتفاق ومطالبتها بالكفّ عن تأييد «مَسد».

كلّ ذلك يأخذنا مباشرة إلى نتيجة واحدة تتمحور حول قدرة القيادتين السورية والروسية، على هندسة الوقائع المُعقدة في شمال شرق سورية، ونسج خيوط تفاهمات تأتي في الإطار الاستراتيجي بعيد المدى، كلّ ذلك يضعناً أمام نُقطة لا يُمكن إغفالها، ألا وهي أنّ دمشق كانت وما زالت وستبقى بيضة القبان في أيّ توازنات إقليمية، فما بالكم بأمر مُتعلق بالجغرافية السورية.