لافروف في دمشق.. ترجمة عمليّة للمسار الدبلوماسيّ
} سماهر الخطيب
«الروس قادمون» تلك هي العبارة الشهيرة التي ردّدتها شعوب شرقي أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى والصغرى وهي تفرّ فزعاً من آلة الحرب الروسيّة التي لا ترحم.
أما اليوم فقد قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوراً جديداً لروسيا في العالم ومرّت الدبلوماسية الروسية بمرحلة تطور جدّي في ظل رئيسها الجديد فقد كانت في بداية حكمه تهدف إلى تقليص هيمنة الغرب وبالأخص الولايات المتحدة، لكنها أصبحت تدريجياً أداة لبناء شراكة فاعلة وملموسة وإرساء قواعد لحوار أكثر فائدة بعيداً عن محاولة تشكيل جبهات معارضة له وكانت نتيجة التغيرات في الذهنية الروسية ردة فعل بوتين على هجمات الحادي عشر من أيلول بعبارته الشهيرة «أيها الأميركيّون نحن معكم»، فقد بدأت روسيا تفهم الواقع العالمي الجديد.
إنما لا تتعامل روسيا مع العلاقات الدولية مثلما تتعامل معها قوى حلف شمال الأطلسي التي تولي أفضلية كبرى لتغيير النظم الحاكمة من خلال عمليات سرية، وسحق هياكل الدول التي تقاومها بشن الحرب عليها، وبينما يكيلون المديح على حقوق الإنسان التي يحترمونها في بلدانهم، لا يتورعون عن انتهاكها في أي مكان آخر من العالم، في سعي منهم لبناء عالم يحترم قواعدهم فقط.
على النقيض من ذلك، تنطلق موسكو في علاقاتها الدولية من معرفة عميقة بثقافة وتاريخ شركائها. وتسعى إلى ترتيب شؤون العالم حول قواعد يتمّ وضعها بشكل مشترك وتحظى بقبول الجميع على أساس القانون الدولي. إذ تؤمن موسكو بالدبلوماسيّة قبل القوة. وغالباً ما نراها تنخرط في مفاوضات طويلة، ليس الهدف منها تقاسم المصالح من خلال إبرام المعاهدات، بل إنضاج وجهات نظر مختلف الأطراف. وهذا ما رأيناه في مناقشات سوتشي والمحادثات على نسق أستانة.
في الأثناء هذه، وفي متابعة مسار الدبلوماسية الروسية، توجهت الأنظار بالأمس، نحو دمشق، حيث زارها وفد روسي برتبة دولة، ضمّ كلاً من نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، وأخذت الزيارة الروسية وفقاً لمجرياتها طابعاً اقتصادياً وسياسياً، وحملت أوجهاً عدة، منها ما يتعلق بالتأكيد على الدعم الروسي العسكري والسياسي للدولة السورية، إضافة إلى مناقشة الملفات السورية المحلية، وكيفية إدارة العالق منها، فضلاً عن البحث عن حلول لمواجهة «قانون قيصر»، وإدارة ملف العقوبات الأميركية على الدولة السورية.
وأخذت زيارة لافروف الأولى منذ مطلع العام 2012 طابعاً دبلوماسياً، وخاصة أنها أتت في أعقاب اجتماعات جمعته بالمبعوث الأممي الخاص إلى سورية غير بيدرسون والتي ناقشوا خلالها موقف موسكو من مفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف. كما ترجمت الزيارة الرفض الروسي للعقوبات الأحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري، وجهوده الحثيثة لإلغائها أو التخفيف منها عبر مساعدات أو اتفاقيات يوقّعها مع الجانب السوري.
فيما يبدو من خلال الزيارة أنّ ثمّة حلولاً تلوح في الأفق، على الأصعدة كافة وبالمقام الأول على الصعيد العسكري والسياسي، إذ تمنح هذه الزيارة دفعة معنويّة إيجابيّة للضغط على تركيا وغيرها من الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية سواء أكانت محلية، إقليمية أو دولية وذلك بهدف الوصول لحلول ترضي الجميع، خاصة أنّ مجيء لافروف للمنطقة لا يخلو من «اتفاقات» ما مع الأميركي الذي يريد مَن «ينزله عن الشجرة» عبر بعض الحلول التي «تحفظ ماء وجهه» في شرق الفرات، وخاصة بشأن قضية «قسد»..
كما أنّ الجانب الروسي يرغب بإيجاد حل للملف الكردي، عبر دبلوماسية الأطراف التي بات ضليعاً بها من خلال إيجاد سبل لحل الأزمة بالتشاور مع الأطراف كافة، كالرعاية الروسية غير الرسمية التي شهدها توقيع اتفاق بين «مجلس سورية الديمقراطية وحزب الإرادة الشعبية العضو المؤسس والرئيسي في منصة موسكو»، ولقاء الطرفين بلافروف، الذي قام بدوره بتسليم ورقة المبادئ الموقعة بينهم لبيدرسون. أضف إلى ذلك التفاعلات المجتمعية السياسية في محافظة دير الزور ومحيطها، والتي تثير اهتمام الروس بالإضافة للحوارات الكُردية وما يمكن أن ينتج عنها، على أن يكون هناك تصالح مقابل إخراج الأميركي من سورية، بالإضافة لتنسيق عمل عسكري في إدلب.
ولن تقف زيارة لافروف عند سورية فحسب، بل ستتعداها إلى تركيا ما يعني الحديث عن الملف الليبي وما يقوم به الأتراك في ليبيا وشرق المتوسط، كما أنّه لن ينسى الموضوع اللبناني الذي سيكون من أولويات الدبلوماسية الروسية كما هو أولوية أوروبية وصينية وكذلك أميركية.
في المحصلة لا بدّ أن تتقاطع جميع هذه القضايا بوجه من الأوجه مع بعضها البعض، وبالتالي من مصلحة الجميع تحقيق الهدوء والاستقرار في سورية..
لافروف الدبلوماسي الشديد الذكاء والذي استطاع مع جهازه الدبلوماسي الضغط على جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية وأولها التركي منذ بداية الأزمة إلى اليوم، محلحلاً عقد تلك الأزمة حتى باتت دبلوماسيته تعرف بـ»دبلوماسية العقدة عقدة» مستثمراً الضغط من جهة، والتفاوض من جهة أخرى للوصول إلى حل سياسي لا يتعدّى على سيادة ووحدة الدولة السورية وفق ما تمخّض عن سوتشي وأستانة.. وها هو اليوم يشدد على السيادة السورية من مقرّ العاصمة دمشق..
وإذا ما أردنا أن نستشف من زيارته خيراً فإننا سنلحظه في الأيام المقبلة فالروس وإن كانوا في سورية وفقاً لطلب الدولة السورية فإنهم في المحصلة يحققون أهدافاً استراتيجية تأتي في صلب الاستراتيجية الروسية محافظة على أمنها القومي من جهة وتحقيقاً لهدفها الأسمى بإعادة الفاعلية للقانون الدولي وعدم انتهاك سيادة الدول؛ وإذا ما تحققت هذه الأهداف في سورية فإنها حكماً ستنعكس إيجاباً على روسيا في الساحة العالمية وستحافظ على حدودها من انتهاكات حلف الناتو وراعيته الأميركية..