مقالات وآراء

أميركا: دعوات لتدخل القوات العسكرية لتنفيذ انتقال السلطة بعد الانتخابات

التحليل الدوري لمركز الدراسات والأبحاث الأميركية والعربية

} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

اعتادت الولايات المتحدة تمييز تجربتها السياسية «الانتقال السلمي والسلِس للسلطة» عقب نهاية الاقتراعات الانتخابية، وتسليم الرئيس المنتخب مقاليد السلطة من سلفه بتنسيق متدرّج بين الفريقين، تهيئة للتسليم الرسمي في 21 كانون الثاني/ يناير من العام التالي.

 يشكّل عهد الرئيس ترامب، صعوده واستمراره وربما نهايته، شذوذاً عن القواعد والأعراف المعهودة، وهو الذي هدّد في أكثر من مناسبة بعدم إقراره بنتائج الانتخابات في حال عدم فوزه، بل ذهب إلى القول إنه لن يغادر البيت الأبيض تلقائياً وأوعز إلى مؤيّديه المدجّجين بالسّلاح التأهّب لدخول العاصمة واشنطن، لحمايته من ردّ فعل أفرع المؤسسات الرسمية الأخرى.

 تتميّز جولة الانتخابات الرئاسية الراهنة بانقسام عمودي وشرخ اجتماعي على مستويات متعددة، كتعبير عن حدة الصراعات المتنامية بين أقطاب المؤسّسة الرسميّة، ودخول بعض القيادات العسكرية على الخط، مناشدين قيادة هيئة الأركان المشتركة التأهّب للتدخّل «عسكرياً» بإخلاء الرئيس ترامب بالقوة، إنْ استمرّ في تعنّته وتحدّيه لأعراف المؤسسة الحاكمة وتقاليدها.

 تراتبياً تتبع المؤسسة العسكرية بأفرعها وتشكيلاتها كافة لقرار السلطة التنفيذية، دستورياً وعُرفياً، وهي المرّة الأولى التي تخضع لاختبار حقيقي في مهماتها وواجباتها المنصوص عليها في معادلة التوازن التقليدي بين الشقين العسكري والمدني لأركان السلطة، وتفتح الأبواب مشرعة على احتمالات لم تشهدها البلاد منذ بدء كيانها السياسي.

 وفي هذا السياق، ناشد ضابطان متقاعدان من سلاح الجيش رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، الإعداد للتدخل المباشر بـ «إخلاء الرئيس ترامب من البيت الأبيض في حال اعتراضه على نتائج الانتخابات وعدم فوزه بولاية ثانية» (نشرة «ديفينس وان»، 18 آب/ أغسطس الحالي).

تأتي تلك المناشدة العلنية للتدخل العسكري على نقيض تراث المؤسسة العسكرية، بإعداد كبار الضباط على مستوى قادة الأركان، وتمسكها الصارم بالتراتبية المهنية ووظيفتها بالانصياع إلى قرار المؤسسة السياسية، كما تشير أدبيات المعاهد العسكرية المتعددة، وأبرزها «الكليات الحربية»، فضلاً عن تداعيات ذلك على المستويات الاستراتيجية والبعيدة المدى ومخاطرها على النموذج السياسي الأميركي في حال تحققها.

وجاء في مذكّرة الثنائي العسكري المذكور أنّ «واجب رئيس هيئة الأركان المشتركة إصدار سلسلة أوامر لا يشوبها الغموض، تمنح القوات العسكرية صلاحية دعم وتأييد الانتقال السلمي للسلطة وفق النصوص الدستورية». ومضت المذكّرة محذّرة، في حال إخفاق رئيس الهيئة الامتثال للواجبات الدستورية، بأنه «سيكون متواطئاً في حملة انقلاب عسكري» على السلطة.

في تلك الأثناء، تصاعدت موجات التحشيد الإعلامي والعسكري والأمني ضد «التدخّلات الأجنبية، وخصوصاً روسيا»، في سير الانتخابات الأميركية، وفق السردية الرسمية. وحذّرت كلّ أذرع المؤسسة الأمنية والعسكرية من تلك المحاولات التي لم تقدّم للحظة أدلّة مقنعة للعامة بهذا الشأن.

ومن بين تلك المساعي تحذير لرئيس القيادة العسكرية الأميركية للفضاء الالكتروني، السيبراني، في وكالة الأمن القومي، بول ناكاسوني، من التدخلات الأجنبية، مؤكداً «جهوزية الوكالة للتحرك» إذا ما تعرّضت جولة الانتخابات للهجوم، ومعتبراً أنّ الهدف الأول هو ضمان «سير الانتخابات للعام 2020 آمنة ومؤمّنة وشرعية» (20 تموز/ يوليو 2020).

بعض المراقبين الأميركيين «شدّد» على ما ورد في تحذير ناكاسوني بضمان شرعية الانتخابات، كرديف لما يدور في أروقة المؤسستين العسكرية والأمنية من نيات بالتدخل للسيطرة على «سلاسة تقليد التسليم والاستلام السلمي» للسلطة.

وما يعزز تلك المخاوف، على الصعيدين الرسمي والشعبي هو الجدل الدائر حول آلية التصويت، في ظلّ تفشي جائحة كورونا، والتزام الأغلبية بإرشادات المراجع الصحية بعدم الاختلاط والتجمهر، ومطالب موازية للتصويت عبر بطاقات الاقتراع بالبريد الرسمي، والذي عارضه الرئيس ترامب وبعض قيادات الحزب الجمهوري، لخشيتهم من تفشي محاولات التزوير، كما يشاع، ولعدم التيقّن من هوية الناخب بشكل مباشر.

 البعض اعتبر مضمون المذكرة «بالون اختبار» أطلقه مقرّبون من حملة المرشح الديمقراطي جو بايدن، بهدف إثارة بعض القضايا والاهتمامات التي يتمّ تداولها داخل المراتب العسكرية العليا.

 وأشار أولئك إلى تقيّد المؤسسة العسكرية الصارم بـ «عدم التدخل في السلطة السياسية»، ممثلاً باستقالة الرئيس الأسبق دوايت ايزنهاور من منصبه العسكري الرفيع في العام 1952، لدخول الحلبة السياسية والترشح لرئاسة البلاد بعد انتصاراته في الحرب العالمية الثانية.

 فرادة الظرف السياسي الذي تمرّ به الولايات المتحدة «قد» تسعف حملة الرئيس ترامب في المحصّلة النهائية، ليس بدوافع أهليته، بل لاعتبارات ضمور أهلية المرشح جو بايدن، والإعياء الذي بدا على حالته الصحيّة وإجهاده، وربما تتفاقم حالته سلباً مع طبيعة الضغوط اليومية لحضور يومي ودائم للمرشح في المشهد السياسي.

 من بين الاحتمالات الواقعية الأخرى، في حال عدم الحسم بنتيجة الانتخابات العامة بين المرشحيْن، وإخفاق مجمع «الكلية الانتخابية» في التوصل إلى نسبة الأغلبية المطلوبة بين أعضائها (270 صوتاً) لإعلان الفائز، أن يُحال الأمر إلى مجلس النواب، الذي يتعيّن عليه «اختيار» رئيس مرحلي لحين جلاء الصورة قبل المهلة الزمنية الدستورية لتنصيب الرئيس رسمياً في 21 كانون الثاني/ يناير 2021.

دور المؤسسة العسكرية، وامتداداً الأمنية، في أجواء الجدل الناجم عنه أقلّ من واضح وصريح بهذا الشأن، بعيداً من الرغبات الذاتية لكلّ من الفريقين السياسيين، وهي ستتبع رؤية مجلس النواب في الصيغة «المرحلية» اتساقاً مع مهامها كمؤسسة تتبع السلطة التنفيذية والتشريعية تباعاً. يعزز ذلك حملة النقد اللاذع للمذكّرة من قبل الرئيس الأسبق لقيادة القوات الخاصة، ريموند توماس، بوصفها «عديمة المسؤولية».

 وانضمّت كبريات المؤسسات الإعلامية إلى الجدل الانتخابي ببعده النظري، في محاولة لتسليط الضوء على أبرز السيناريوات المحتملة، فقد تناولت يومية «نيويورك تايمز» في 2 آب/ أغسطس الحالي سيناريو انتخابياً بإشراف معهد «مشروع صدقية تسليم السلطة»، يحاكي جملة احتمالات، منها «فوز الرئيس ترامب بأصوات مجلس الكلية الانتخابية وخسارته الأصوات الشعبية»، استناداً إلى فرضية خسارة المرشح المنافس جو بايدن لولاية بنسلفانيا «المحورية»، والتي لن تستطيع الإعلان عن نتائج الانتخابات النهائية لبضعة أسابيع ربما.

 وأوضح السيناريو أن «الخاسر» الديمقراطي سيلجأ إلى اتهام خصمه بقمع أصوات الناخبين، والسعي لإقناع حكام ولايتي مشيغان وويسكونسن الديمقراطييْن بتعيين مندوبين مؤيدين للمرشح بايدن. في المقابل، مضى السيناريو، هدّدت ولايات كاليفورنيا واوريغون وواشنطن المطلّة على الساحل الغربي للولايات المتحدة بالانشقاق عن الاتحاد الفيدرالي القائم في حال تسلّم الرئيس ترامب مهام ولاية رئاسية ثانية.

 النصوص المرعية الراهنة في الولايات المتعددة توضح أنّ الرابح بالأصوات الشعبية في الولايات المختلفة تفرض على مندوبي الكلية الانتخابية تأييد التصويت للفائز عينه.

 التهديد بالانشقاق المشار إليه لثلاث ولايات ليس وليد اللحظة الراهنة، بل سبق أن استخدمته ولاية كاليفورنيا في الجولة الانتخابية السابقة في العام 2016، وسعت القوى المختلفة إلى تضمين ذلك كنص انتخابي في عموم الولاية في العام 2018، لكنه فشل في الحصول على الأصوات الضرورية.

 عند النظر في «تجدّد فرضية الانشقاق»، رغم مخاطرها على تماسك الصيغة الفيدرالية، ربما سيجد الرئيس ترامب فرصته لتهديد تلك الولايات بسحب القواعد العسكرية والبحرية المتعددة من أراضيها، بما فيها تلك المتواجدة في ولاية هاواي، مما سيعرّض الاستراتيجية الأميركية العليا للخطر أمام توجّهها لمحاصرة الصين في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ على السواء، أو يتمّ التوصّل إلى صيغة تعاقد بإيجار الولايات تلك القواعد للحكومة الفيدرالية لفترة زمنية محددة ترجئ خطر الانشقاق وتفتّت الصيغة الأميركية.

 التحديات الأخرى الناجمة عن تغوّل الأجهزة الأمنية المختلفة في المدن الأميركية، لا تزال ماثلة وقابلة للاشتعال مرة أخرى، وخصوصاً في كبريات المدن، مثل بورتلاند وسياتل في الساحل الغربي، وشيكاغو في الوسط، ونيويورك في الساحل الشرقي.

تفاقَمَ ولاء الأجهزة الأمنية أيضاً عقب إصدار الرئيس ترامب أوامره لقوى أمنية فيدرالية بالتدخّل المباشر في تلك المدن، وما نجم عنها من تصادم في صلاحيات المدن والولايات من جهة، ونفوذ الدولة الفيدرالية من جهة أخرى.

 إضافة إلى كلّ ما تقدّم، فإنّ التحديات والتعقيدات اليومية الناشئة عن تجدّد انتشار جائحة كورونا لا تزال حاضرة بقوة في الوعي الشعبي العام، وستأخذ حيّزاً مهماً في قرار الناخب الأميركي عشية جولة الانتخابات المقبلة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى