واشنطن تتأهب للمواجهة… والصّين هادئة ويقظة
التحليل الدوري لمركز الدراسات والأبحاث الأميركية والعربية
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري *
«تفوَّقت الصين على الولايات المتحدة في مجالات محدّدة، في بناء السفن والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز ونُظم الدفاع الجوي». كان ذلك مُلخّص تحذير في تقرير سنوي أعدَّته وزارة الدفاع الأميركية وقُدّم إلى لكونغرس، في الأول من شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، حول «التطورات العسكرية والأمنية لجمهورية الصين الشعبية».
تزامن التقرير مع تقديم البنتاغون ميزانيته للعام المقبل إلى الكونغرس، والتي تقدّر بنحو 740 مليار دولار، ما حفّز البعض على اعتباره تهديداً مبطناً للساسة الأميركيين بالموافقة على الميزانية، تعزّزه «المبالغة» في تقييم التّهديدات التي تعتبرها واشنطن عثرة أمام «مصالحها الكونيّة». ولا شكّ في أنّ المجمّع الصناعي الحربي الأميركي هو المستفيد الأول من مبالغات تقرير البنتاغون، لأنه يوفّر الذريعة الجاهزة لتبرير الإنفاق الهائل على المنظومات العسكرية.
شدّد التقرير، كما التّقارير السابقة المقدّمة، على عزم القيادة الصينية على تطوير أداء قواتها المسلحة وتحديث ترسانتها العسكرية مع حلول عام 2049 في «الذكرى المئوية للثورة الصينية الشعبية»، وبأنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ يُعدّ لاستعادة جزيرة تايوان للسيادة الصينية بحلول العام 2050 بموجب سياسة «الصين الواحدة» الموّحدة.
تقارير البنتناغون حول الصين، بدءاً منذ العام 2000، ألقت ظلالاً من الشكّ على قدرة الصين على النهوض عسكرياً في المدى القريب، معتبرةً أنّ «عقيدة القوات المسلحة الصينية هي في الإعداد لمواجهة حرب بّرية كبيرة على طول حدودها، وبأنّ أسلحة قواتها البرية والجوية والبحرية قديمة وعفا عنها الزمن». بعضهم وصفها تهكّماً بأنها عبارة عن «نمر من ورق».
واعتبر مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، روبرت أوبرايان، أنّ سياسة واشنطن تجاه بكين تعد «أكبر فشل للسياسة الخارجية الأميركية منذ الثلاثينيات». وقد انتقدت الصين الأمر على أرفع مستوياتها الرسمية، ورفضت توصيف تقرير البنتاغون. وقالت المتحدثة باسم وزارة خارجيتها خوا تشينغ يينغ إنّ التقرير الأميركي «مليء بالتحيّز»، مشدّدة على التزام بلادها بمسار التنمية السلمية.
وزارة الدفاع الصينية اعتبرت أنّ التقرير تحكمه «عقلية الحرب الباردة والمعادلة الصفرية»، ويسيء تفسير سياسة بكين الدفاعية واستراتيجيتها العسكرية، ويحرّض على نشوب مواجهات في مضيق تايوان.
يُشار في هذا الصدد إلى تواتر تقارير أميركية متعدّدة «تغذّي حالة العداء للصين»، منها تقرير موسّع لصحيفة «واشنطن تايمز»، اليمينية والمقرّبة من البيت الأبيض، محذراً من «مؤشرات» قامت بها الصين بأنها تعدّ لعمل عسكري ضدّ الولايات المتحدة التي «دقت جرس الإنذار داخل الجيش وأجهزة استخباراتها»، (29 تموز/ يوليو 2020).
وحذّرت أيضاً من عبثية جهود «بناء الثقة مع جيش التحرير الشعبي الصيني، والتي فشلت إلى حدّ كبير في إقامة علاقات أو تعاون أوثق»، معتبرة التهديد «ملحّاً الآن ومن دون الانتظار إلى العام 2030، إذ باتت كلّ القواعد الأميركية في منطقة قيادة المحيط الهادئ معرّضة لخطر الهجوم، بعدما عززت الصين قدراتها مؤخراً، لا سيّما من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى».
يُشار إلى أنّ التواجد العسكري الأميركي الضّخم في جزر غوام، قبالة الفيلبين في المحيط الهادىء، يضمّ 3 قواعد عسكرية ضخمة «هي مصدر قلق خاصّ، لأنه يصعب الدّفاع عنها». وزعمت الصحيفة أنّ هناك «شائعات عن صراع سياسيّ كبير على السلطة في بكين، بين الرئيس الصيني شي جين بينغ وعناصر موالية لنائب الرئيس الصيني السابق تسنغ تشينغ هونغ، حليف الرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين».
وأكدت مصادر عسكرية أميركية لوسائل الإعلام أنّ «مسار التوتر في العلاقات مؤخراً بين البلدين على خلفية ملفات عدة، أكّد مخاوف متزايدة من أنّ الولايات المتحدة معرّضة لتهديدات بالغة من الصين، وأنّ أيّ قتال سيؤدّي إلى معاناة الولايات المتحدة من خسائر فادحة» (17 أيار/ مايو 2020).
وأردفت المصادر العسكرية قائلة إنّ الصين «تمتلك صواريخ باليستية بعيدة المدى مضادة للسفن، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت (أكثر من 5 أضعاف)». كما أعلن الرئيس الأميركي ترامب متفاخراً عن جهود بلاده تطوير «صاروخ متطور أسرع من الصوت بـ 17 مرة من الصواريخ الحالية» (17 أيار/ مايو 2020).
مستشارة الحكومة الأميركية لشؤون شرقي آسيا (من أصول أسترالية)، بوني غلاسر، أفصحت عن إجراء جملة دراسات وتمرينات نظرية لمحاكاة التهديد الصيني بحلول العام 2030، قام بها عدد من الخبراء الأميركيين في الآونة الأخيرة، وأسفرت نتائجها عن «هزيمة الولايات المتحدة» (19 أيار/ مايو 2020).
بالعودة إلى تقرير البنتاغون، لفت مختصّون في الشؤون العسكرية إلى خلوّ التقرير من جداول وبيانات مفصّلة مفيدة، كما جرت العادة والتقليد العسكري، وأغفل مقارنة فعالية الترسانة الصينية بنظيرتها الأميركية، بل «أسهب في توصيفات غامضة» غير دقيقة، مثل قوله: «تمتلك الصين الشعبية أكبر سلاح بحرية في العالم، ولديها قوة محاربة تعادل نحو 350 سفينة وغواصة. في المقابل، القوة الأميركية المحاربة تشمل نحو 293 سفينة (تحت الخدمة) منذ مطلع العام 2020».
تفادى تقرير البنتاغون أيضاً الإقرار بمسلّمة يدركها العسكريون حول طبيعة السفن الحربية الصينية، وهي ذات طبيعة «خفيفة الحركة تصلح للدفاع عن سواحل البلاد»، وليس للإبحار البعيد. وأعلنت الصّين حديثاً عن دخول «حاملة طائرات تعمل بالطاقة التقليدية» الخدمة، وهي أصغر من مثيلاتها الأميركية.
سلاح البحرية الأميركية المنتشر يضمّ «11 حاملة طائرات نووية، 3,700 مقاتلة حربية»، بينما ترسانة الصين الجوية لا تتعدّى 1,000 طائرة هجومية وقاذفة قنابل. أما نُظم الدفاع الجوية في الصين، فيعتقد الخبراء العسكريون أنّها مبالغ بها، وخصوصاً أنها تعتمد على النظم الروسية من «أس – 400» و «أس – 300» التي لم تختبر جدياً في ساحات الحرب.
وأشار بعض المعلقين الأميركيين إلى استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، رغم توفّر هذه المنظومات التابعة للقوات الروسية هناك، كدليل على عدم تفوّقها أو على تمكّن الإسرائيليين من تطوير تكتيكات تتجاوزها.
القوات المسلحة الصينية، في رأي الخبراء العسكريين، تواجه تحديات متشعّبة لإعادة بناء ترسانتها، واستناد عقيدتها العسكرية إلى الاعتماد على وحدات «جيش التحرير الشعبي»، وهي ذات هيكلية أقرب إلى وحدات ايديولوجية ترتبط مباشرة بالقيادة السياسية للبلاد، أما تطوير عقيدتها وعتادها إلى مستويات الجيوش النظامية الحديثة، فلن يتحقّق ضمن طموح قادة البلاد بإنجاز ذلك مع حلول العام 2049. عندئذ ستصبح أسلحتها للعام 2020 قديمة ومحدودة الفعالية.
وأوضح تقرير البنتاغون للعام 2019 هذه المسألة بالإشارة إلى توقعه بـ «فشل جيش التحرير الشعبي في إنجاز أهدافة بالتّطوير والتّحديث، وهو لا يزال على مسافة نحو سنتين قبل الوصول إلى مرحلة المكننة».
إصدار البنتاغون تقريره حول «تهديد الصين» لم يغفل المناخ السياسي الراهن في واشنطن، والمنهمك بالإعداد لمنافسة انتخابية «حامية الوطيس» بين الحزبين وداخلهما أيضاً، والضّغط على قادة الكونغرس للمصادقة على الميزانية المطلوبة قبل تبدّل موازين القوى المتوقّعة عقب انتهاء الانتخابات.