إعادة الاعتبار لوزارة التخطيط في لبنان
زياد حافظ*
في غمرة المشاريع الإصلاحية المتعدّدة والمتنوّعة لاحظنا غياب عنصر أساسي يستطيع أن يعبّر عن جدّية الالتزامات في تنفيذ البرامج الإصلاحية الاقتصادية والمالية وفي قطاعات الصحة والتربية والبيئة. العنصر الغائب هو مؤسّسي حيث التنسيق بين مختلف المشاريع في مختلف المناطق اللبنانية والقطاعات المكوّنة للاقتصاد والمجتمع اللبناني هو وزارة التخطيط. فتلك الوزارة التي أنشئت في الستينات من القرن الماضي وظلّت قائمة رغم الحرب الأهلية اللبنانية تمّ القضاء عليها في حقبة الطائف واستبدل مجلس الإنماء والإعمار بها. والعشوائية التي تميّزت بها مختلف المشاريع التي تبنّتها مختلف الحكومات في حقبة الطائف أكدّت أنّ غياب التخطيط المركزي عائق كبير لبلورة سياسة اقتصادية واجتماعية متكاملة. لسنا في إطار مقاربة «إنجازات» و«إخفاقات» حقبة الطائف بل لنؤكّد حول ضرورة إعادة الاعتبار للتخطيط المركزي.
وفعلاً إنّ إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية تتطلّب إعادة هيكلة كلّ من الاقتصاد والقطاع المالي والمصرفي بما فيه السياسات المالية والنقدية والتي عرضناها سابقاً. وجميع الاقتراحات التي عُرضت تتطلّب فترة زمنية تتراوح بين المدى القصير جدّاً، أيّ أقلّ من سنة»، إلى فترات متوسّطة الأجل والطويلة التي تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات في المدى المتوسّط وأكثر من ذلك في المدى الطويل. والسؤال البديهي هو كيف يمكن التنسيق في الزمان والمكان والقطاع إذا الحكومة التي قد تشرف على تلك المشاريع قد تتغيّر وفقاً للظروف السياسية الداخلية أو الإقليمية. فوزارة التخطيط هي الأداة الممكنة لتحقيق كلّ ذلك حيث تكون المسؤولة عن إعداد الخطط التفصيلية لكّل سياسة وإجراء وتكون المسؤولة عن متابعة التنفيذ مع مختلف الوزارات والهيئات المعنية العامة والخاصة.
يصعب علينا أن نتصوّر اتّباع سياسة مالية ونقدية متماسكة في غياب خطّة مركزية تهدف إلى تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة في مختلف القطاعات وإلاّ لفقدت تلك السياسات سبب وجودها! كما يصعب علينا أن نتصوّر أنّ سياسة الإصلاحات المطلوبة يمكن أن تتحقق خارج إطار التخطيط المركزي. هناك من سيعارض فكرة التخطيط بحجة أنّ زمن التخطيط المركزي قد ولى وأنّ السوق هو الذي يقود النشاط الاقتصادي. كما أنّ هناك من يعتقد أنّ التخطيط المركزي مرادف للاشتراكية والشيوعية ولبنان بعيد كلّ البعد عن ذلك التوجّه لأسباب موضوعية وذاتية. وهناك من يعتقد أنّ التخطيط المركزي يكبح الإبداع والتجدّد. هذه الحجج تسوّقها المدرسة النيوليبرالية الاقتصادية التي سيطرت على الجامعات الغربية ومراكز الأبحاث منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي واكتسبت زخماً مع تفكّك المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية في مطلع التسعينات وانطلاق موجة العولمة من بعد ذلك. وهذه السياسة تكرّست في حقبة الطائف تماشياً مع موجة العولمة والنيوليبرالية. لكن في رأينا كانت أيضاً منسجمة مع رؤية للبنان مبنية على مشاريع السلام التي تمّ تسويقها بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو فاعتقدت الطبقة السياسية أنّ مستقبل لبنان هو في جعله مركزاً مالياً وسياحياً متناسية أنّ الكيان الصهيوني لن يسمح بذلك. في مطلق الأحوال تغييب التخطيط المركزي ساهم في بلورة تلك الفكرة الخاطئة المتجاهلة لأبجدية الاقتصاد أيّ لا اقتصاد إلاّ في الاقتصاد الإنتاجي وليس في الاقتصاد الافتراضي و/أو الريعي. ولبنان يحصد ما زرعه من سوء تقدير قاتل وفساد مدمّر تلازم معه.
إذا حجّتنا الأولى في إعادة الاعتبار إلى التخطيط المركزي فشل الارتجال الاقتصادي والابتعاد عن بديهيات الاقتصاد الإنتاجي. فلا تنمية ممكنة دون اقتصاد إنتاجي ولا تنمية متوازنة ومستديمة دون تخطيط مركزي ولا عدالة اجتماعية وبيئة محمية دون ذلك التخطيط.
ثانيا، إنّ تجربة الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة في فرنسا والمملكة المتحدة تشير بوضوح أن لولا التخطيط المركزي لما كان ممكناً إعادة بناء الاقتصاد الذي دمّرته الحرب العالمية. كما أنّ العمل بالتخطيط استمرّ حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي حتى صعود موجة النيوليبرالية التي قادتها كلّ من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في مطلع الثمانينات. بمعنى آخر، إنّ التخطيط في دول تعتمد النظام الرأس المالي لجأت إلى التخطيط المركزي لأنه الوسيلة الوحيدة للنهوض بعد الكارثة.
ثالثا، النموذج الصيني الذي يعتمد نظام اقتصادي رأس مالي يعتمد أيضاً التخطيط المركزي في التوجهات الاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وجود حزب شيوعي مركزي متحكّم في قيادة البلاد أتاح الفرصة لمزج الرأس المالية بالتخطيط المركزي. ومعدّلات النمو القياسية التي حققتها الصين خلال العقود الأربعة الماضية خير دليل على نجاح ذلك النموذج. والصين هي الدولة التي أوجدت خططاً متوسطة وبعيدة المدى استطاعت من خلالها عقلنة توزيع الموارد وتحقيق الإنتاج والنمو القياسي. والصين قد تكون من الدول القليلة في العالم التي حدّدت بوصلتها للسنوات المقبلة غير معتمدة على تقلّبات اقتصاد السوق ولكن دون تجاهله.
صحيح أنّ الحديث عن التخطيط المركزي معقّد ومتشعّب. فالجدل حوله هو سياسي وعقائدي بامتياز وليس مبنياً على قاعدة علمية قاطعة. التجربة التاريخية تدلّ على أنّ في مرحلة النهوض وخاصة بعد كارثة عسكرية وأمنية أو طبيعية لا بدّ من التخطيط لتعبئة الموارد والطاقات لأنّ السوق لا يستطيع أن يفي بذلك إنْ لم تكن البنية التحتية للاقتصاد الإنتاجي جاهزة. لبنان في المرحلة الحالية يفتقد إلى بنية تحتية لا يستطيع القطاع الخاص القيام به، كم أنّ القطاع ليس معنياً بالاستثمار طويل المدى والكلفة العالية العائدة لتلك المشاريع الكبيرة. القطاع الخاص يستفيد من كلّ ذلك بعد تحقيق البناء وليس قبل. فإذا كان لبنان في مرحلة إعادة بناء فلا بدّ من التسليم بأنّ القطاع العام هو الذي سيقوم بذلك خاصة في مشاريع المرافق العامة والبنى التحتية التي تتراوح بين مشاريع الطاقة والمواصلات والاستشفاء والتربية والبيئة. كلّ ذلك يفرض التخطيط في تحديد الأولويات وتجهيز الموارد لتنفيذ المشاريع. كما أنّ متابعة التنفيذ تتطلّب هيئة كوزارة التصميم أو على الأقلّ مجلس تصميم مركزي يقوم بتلك المهمة.
التخطيط المركزي لا يعني التأميم لوسائل الإنتاج ولا يعني الاستغناء عن اقتصاد السوق. التمازج بين الاثنين ممكن بل مطلوب. وهناك أنماط متعدّدة للتخطيط المركزي وفقاً لمروحة واسعة من السيطرة والقيادة تكون في الحدّ الأقصى الإشراف المطلق على كلّ الإنتاج والتوزيع والتوجيه لقطاع الخاص. والقطاع العام يخضع كلّيا للتخطيط المركزي خاصة في ما يتعلّق بالبنى التحتية. أما في الحدّ الأدنى والأقرب للمزاج الملتبس عند الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان فيكون التخطيط توجيهات أكثر من عامة بل تفصيلية ومرتبطة بجداول زمنية محدّدة ترافقها إنذارات بعواقب مالية وقانونية إن لم تلتزم بها. والتفاهم مع القطاع الخاص يكون مدعوماً بسياسات مالية ونقدية تساهم في تنفيذ التوجهات. فعلى سبيل المثال، تستطيع الدولة أن تحثّ القطاع المصرفي على دعم القطاعات الإنتاجية والتخفيف من الدعم للمضاربات العقارية والمالية.
هنا يبرز دور القطاع المصرفي الذي يجب إعادة بنائه كلّيا. وإعادة الهيكلة للقطاع المصرفي ضرورة لإعادة بناء الثقة المفقودة في إدارة القطاع المصرفي الحالي. وفي تعذّر الوصول إلى إعادة الهيكلة والاستمرار بالعمل كما أن لم يحصل شيء فلا بدّ للدولة من إنشاء مجموعة مصارف تملكها الدولة تنفّذ السياسة النقدية في توجيه الاستثمارات المطلوبة في إعادة بناء الاقتصاد الإنتاجي. نشير هنا إلى نجاح التجربة الصينية في القطاع المصرفي حيث أكبر أربعة مصارف في العالم هي مصارف صينية تملكها الدولة الصينية!
السياسة النقدية التي قد تتبعها الدولة في تنفيذ مشاريع إعادة الهيكلة والإعمار والتنمية ترتكز إلى مروحة واسعة من الإجراءات. فتحديد الاحتياط الإلزامي يرافقه تحديد سياسة شراء وبيع سندات الخزينة في الأسواق وتكمله سياسة الفوائد. والتحفيز والدعم للنشاطات الاقتصادية المنتجة قد تستند إلى اقتراض بفوائد مخفّضة مع تسديد طويل المدى نسبياً للاقتراض. كما أنّ إعادة الاعتبار للتعاونيات الاستهلاكية والقطاعية تشكل أدوات فعّالة تضبط مستوى الأسعار. فكلّ ذلك يتطلب تخطيطاً مركزياً وقطاعياً ومناطقياً تقوم به وزارة التخطيط أو التصميم. فهل الحكومة المقبلة ستقدم على ذلك؟ وبناء على إقدامها أو عدم إقدامها على تلك الخطوة يمكن استشراف جدّية برنامجها الإصلاحي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي