مقالات وآراء

الصناعات الدوائية في سورية: حفاظ على معادلة الجودة والسعر رغم كلّ الظروف

ساهمت في تحقيق الأمن الدوائي وتصدّت للحصار والعقوبات

 

دمشق ـ سعد الله الخليل

نجحت الصناعة الدوائية في سورية خلال العقود الماضية في كسر الحصار الاقتصادي وتحويل حالة الصمود والتحدّي إلى قصة نجاح حققت لسورية الاكتفاء الذاتي والانتقال إلى مرحلة التصدير إلى الأسواق العالمية.

 يتحدّث مدير صحة حمص الدكتور حسان الجندي عن بداية تطور الصناعة الدوائية في سورية منتصف الثمانينات جراء الحصار الاقتصادي الذي فرض على سورية، حينها فُتحت الدولة الأبواب واسعة لتطوير هذه الصناعات وأخذت منحى قوياً.

وفي حديث لـ «البناء»يضيف الجندي: «في حمص فقط هناك ستة معامل أدوية حافظت على إنتاجها خلال الأزمة وأغلبها معامل أثبتت خلال السنوات الطويلة تواجدها في السوق السورية».

ويتابع: « الصناعة الدوائية الوطنية أثبتت حضورها بدليل أنّ أغلب الأصناف السورية مطلوبة في الأسواق العالمية وبقوة، جودة الصناعة الدوائية مهمة جداً، ولولا هذه الصناعة لكنا بوضع كارثي، فالبلد في حالة حرب وحصار وبالتالي إنّ صمود القطاع الصحي دليل على وجود بنية متكاملة تشكل الصناعات الدوائية إحدى مداميكها وهي القادرة على المساهمة في تجاوز كلّ الاختناقات التي تحصل».

«نجاح الصناعات الدوائية السورية بُني على تجاربٍ ناجحة، يقول مدير معمل ابن حيان للصناعات الدوائية  الدكتور رشيد الفيصل لـ»البناء»، شارحاً أنّ «الأمر يعود لعراقة الصناعة الدوائية».

ويضيف الفيصل: «عام 1908 أسّس جدّي أول صيدلية في حمص، أما والدي فهو يعمل في مجال صناعة الأدوية منذ 1955 حتى تأسيس معمل «إبن حيان» عام 1990. نعتز ونفتخر بأننا بدأنا بحوالي 50 موظف ما بين كيميائي وصيدلي وفني وعامل، واليوم يزيد عددهم عن 500، عدا عن العاملين في الدعاية الطبية. هذا النجاح لم يأتِ من فراغ وهو نتيجة جهد متواصل وإصرار وقد ساهمنا إلى جانب المعامل الأخرى في تغطية حاجة سورية من الدواء في الفترة السابقة».

بدوره، يشير المدير العام لمختبرات «ميديكو» الدكتور محمد نبيل القصير إلى تأسيس المختبرات عام 1958 عبر خمسة صيادلة لإنتاج عدد محدود من المستحضرات بطرق بدائية، أمّا الانطلاقة الفعلية فكانت عام 1982مع توسيع العمل ودخول شركاء جدد». ويعتبر القصير في حديث لـ»البناء» إلى أنّ  عام 2000 كان «بمثابة الانطلاقة القوية من المعمل الجديد وفق المعايير العالية من حيث الآلات الحديثة والزمر الدوائية الحديثة، من القطرات العينية والمضغوطات والكبسول والشرابات والمراهم والمضادات الحيوية وقسم المُعقِّمات والمطهرات الذي رفَد السوق السورية والمشافي بمواد التعقيم الشخصية والخاصة بالأسطح منذ بداية أزمة كورونا».

الأمن الدوائي

تمتلك الصناعات الدوائية السورية مقوّمات نجاح رسّخت أسماء الشركات السورية في السوق السورية والإقليمية، وفي هذا السياق، يرى الدكتور الفيصل أنّ الدواء سلعة حيوية حساسة الدواء كونه حاجة أساسية لصحة الإنسان التي هي أغلى ما يملكه، فالمواطن عندما يشتري أي سلعة يمكنه أن يختار وفق رغباته وتجربته، أما الدواء فهو يشتريه من دون تجربة وبالتالي يجب أن يكون فعالاً ومضموناً وأمناً وسليماً. من هنا تأتي أهمية زرع ثقة المواطن بالدواء عبر الالتزام بالمعايير والضوابط والمواصفات، والحرص على أن تكون الشركات بجاهزية ومستوى جيد من الأداء، وتهيئة العاملين في القطاع الدوائي وتثقيفهم لتتبع أسس التصنيع الجيد للدواء بعيداً عن الارتجال أو الاعتباطية».

ويتابع الفيصل حديثه لـ «البناء» قائلاً «إنّ على من يحضر الدواء اتباع تعليمات سجلات التحضير من دون تجاوز التعليمات، فالثقة لا تأتي من عبث بل بصورة تراكمية من المريض والطبيب».

ويؤكد «أنّ المعامل الوطنية ساهمت، ولا تزال، في ترسيخ الأمن الدوائي»، متمنياً من وزارة الصحة السورية «منحها الرعاية المناسبة والأخذ في الاعتبار الأثمان التي تدفع».

ويقول: «نأمل أن لا نكون مجبرين على التخلي عن المسؤولية التي حملناها لسنوات، ورغم سنوات الحرب الطويلة استمرينا في الإنتاج ولم نتوقف يوماً».

صمود رغم التحدّيات

بالرغم من كل المعوقات، صمدت الصناعات الدوائية خلال سنوات الحرب العشر التي تعرضت لها سورية وبقيت صمام أمان صحة السوريين، وفي هذا الإطار، يشير الدكتور محمد نبيل القصير إلى أنّ الصناعات الدوائية «كانت ولا تزال وستبقى من أهم دعائم الاقتصاد الوطني»، لافتاً إلى ما تعرضت له المعامل خلال سنوات الحرب من تخريب».

ويضيف: «الصناعة الدوائية في سورية رائدة ويتم تصدير منتجاتها إلى أكثر من 42 بلداً، كما تساهم في تأمين حوالي 92% من حاجة السوق من الزمر الدوائية»، لافتاً إلى «أنّ نسبة الاستيراد كانت محدودة والآن دخل العديد من المعامل على خط إنتاج أدوية السرطانات».

ويتابع القصير: «التحدي الكبير تمثل بعودة المعامل إلى العمل خلال سنوات الحرب بعد بتأمين المواد الأولية وتأمين صيانة الآلات في ظلّ العقوبات، كالحصول على قطع التبديل بطرق التفافية أكثر كلفة عبر دول وسيطة وحرمان العقوبات الشركات من دساتير الأدوية، وهي أحد أشكال الحرب على سورية، إضافة إلى منع المواد العيارية من الوصول إلى سورية لتحليل المنتجات، وهذا ما يكشف حقيقة الحرب على سورية باستهداف أساسيات العمل».

وعن آلية التعاطي خلال سنوات الحرب، يكشف القصير عن إنشاء بناء لإقامة العمال خلال سنوات الحرب يتضمن كل مستلزمات الإقامة يتسع لتسعين شخصاً. ويقول: «شجعنا العمال على العودة إلى العمل بأساليب شتى منها تقليص ساعات العمل وتأمين وصول العمال إلى منازلهم مع الحفاظ على أجورهم، وتدريجياً استطعنا إقناع العمال بضرورة عودة العجلة الاقتصادية».

ويلفت القصير إلى أنّ «مشاكل الحرب لا تتوقف عند تأمين مستلزمات العمل بل تتعدّاها إلى مشاكل العمال أنفسهم ومعاناتهم من تواجد المسلحين في أحيائهم، فالبعض خسروا منازلهم واضطروا للسكن في المعمل مع عائلاتهم «.

معايير الجودة العالمية

من جهتها، تؤكد  مديرة الإنتاج في مختبرات «ميديكو» الصيدلانية سناء هزيم العمل أنّ العمل يجري «وفق متطلبات وزارة الصحة بما يتعلق بالجودة ومعاييرها». وتضيف: «حصلنا على شهادات الجودة العالمية إضافة إلى خطة مراقبة المنتج منذ دخوله إلى المعمل كمادة أولية وسواغات ،حتى خروجه كمنتج نهائي ضمن سلسلة من الاختبارات مدرجة ضمن خطة الفحص كطريقة عمل معيارية للوصول إلى ثبات المنتج».

وحول المواصفات الفنية للمنتجات التصديرية، تشير هزيم في حديث لـ «البناء» إلى «أن مواصفات المنتج المحلي مطابقة للمنتج التصديري ولا يوجد أي فارق بينهما».

بدوره، يشير مدير ضمان الجودة في معمل ابن حيان عبد الكريم درويش إلى «الممارسات التصنيعية الجيدة واتباع قواعد المدونة العربية ما ينظم جودة الدواء السوري». ويضيف: «حصل معمل ابن حيان على شهادة مطابقة الجودة الأوروبية ونحن نطبق المعايير العالمية، أما بالنسبة إلى المواد الأولية والمستحضرات فإننا نلتزم بدساتير الأدوية العالمية الأوروبية والأميركية واليابانية».

ارتفاع سعر الصرف

شكل ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية تحدياً كبيراً أمام صناعة الدواء، ويرى الدكتور الفيصل أنّ « موضوع السعر حساس وبالغ الأهمية»، نافياً ما يتم تداوله عن وجود تلاعب من قبل المعامل بالمادة الفعالة. ويوضح: «هذا كلام غير دقيق بدليل خلو الأسواق من الأدوية، ولو كان هناك تلاعب لأحجم الطبيب والمريض عن الدواء».

 ويتابع الفيصل: «وضع الليرة السورية انعكس على أسعار الدواء، ونبذل جهوداً مضية لنستورد المواد الفعالة من مصادر موثوقة وهو أمر مكلف، وهنا يجب أن نُطمئن المواطن بأنه مهما ارتفع سعر الدواء السوري سيبقى أرخص من الدواء الأجنبي أو المستورد أو المهرب، وبفعالية مضمونة. وبالرغم من تعهدنا بتقديم دواء بسعر رخيص، إلا أنّ الظروف الاقتصادية تغيّرت عما كانت عليه قبل فترة، بسبب تغيُّر سعر الصرف الذي انعكس على أجور العمالة، وهو ما يفرض علينا معطيات جديدة تنعكس على تكلفة الدواء». ويضيف: « نعاهد المواطن أن يبقى الدواء السوري بأمانه وفعاليته وجودته وسنبقى مسؤولين عن كل قطعة دواء ننتجها».

 تحدّي قانون قيصر بمواصلة العمل والإنتاج

شكّل قانون العقوبات الأميركية على سورية والمعروف بقانون قيصر عقبة أرخت بثقلها على صناعة الدواء، وهنا يرى الدكتور الفيصل أنه بالرغم من «أنّ التصريحات الأميركية بأنّ قانون قيصر لا يشمل الصناعات الدوائية ،إلا أنّ الحقيقة عكس ذلك وهناك محاربة وقيود على أي عملية تحويل أموال بمجرد ذكر اسم سورية». ويضيف: «لطالما تعرّضنا لعمليات قرصنة من البنك المركزي الأميركي، ورغم ذلك سنتحدى قانون قيصر بالاستمرار في العمل والإنتاج».

في السياق عينه، يشير الدكتور القصير إلى أنّ صناعة الدواء «هي في النهاية جزء من الحركة الاقتصادية في البلد وكقطاع خاص لديه بعض من حرية الحركة». ويقول: «اعتدنا العمل في ظلّ العقوبات، وأولى مفاعيل قانون قيصر ارتفاع أجور التحويلات إلى 10% بدلاً من 1% وهذا رقم كبير جداً عدا عن صعوبة إتمام بعض التحويلات التي تحمل علامة تشير إلى سورية».

العودة إلى الأسواق التصديرية

أفقدت سنوات الحرب صناعة الدواء في سورية جزءاً من الأسواق التصديرية، فيما أوقفت القرارات الأخيرة لوزارة الصحة التصدير لحين اكتفاء الأسواق المحلية، ويلفت الفيصل إلى «أنّ الدواء السوري تمتع بسمعة جيدة مكّنت الشركات من تسجيل منتجاتها في حوالي 35 دولة أجنبية وسط منافسة قوية في أسواق مفتوحة، واستطاع الدواء السوري إثبات وجوده في الأسواق، وهو لا يزال مطلوباً، رغم الظروف الصعبة، في الأسواق الخارجية وهذا دليل ثقة بالصناعة الدوائية السورية».

من جانبه، يرى القصير «أن تصدير الأدوية السورية أمّن الاستقرار الاقتصادي والسياسي الدوائي، ورفع من قيمة المنتج إضافة إلى العائد المادي».

 ويضيف: «إنّ تراجع التصدير خلال سنوات الأزمة جراء العقوبات وعدم توفر المواد الأولية أفقدنا الأسواق التصديرية وأمامنا الآن السودان واليمن والعراق بشكل أساسي، ونحن نحاول العودة إلى الأسواق السابقة ونسعى، بالتعاون مع وزارة الصحة، إلى السماح بإعادة التصدير بعد تأمين الأسواق المحلية في سورية ومرور فترة التخبط التي تشهدها الأسواق جراء تغير سعر الصرف، فتأمين السوق المحلية مسؤولية اجتماعية ووطنية لا يمكن التراجع عنها».

فرص استثمارية واعدة

لا تزال الصناعة الدوائية تحمل فرصاً استثماريةً واعدة ، بالرغم من الظروف الصعبة التي تواجهها، حيث تنتظر العديد من الشركات الموافقات للدخول في مرحلة الإنتاج الفعلي.

ويرى المحامي المستشار القانوني لشركة «الوادي» جوزيف مقدسي، وهي شركة تأسّست عام 2016 كشركة متخصّصة بالصناعات الدوائية، أنّ الفرصة سانحة مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ لتعاطي الحكومة بشكل مختلف، ما يسمح بتحقيق زيادة في التصنيع، خاصة في الشركات الجاهزة لاستئناف عملها في هذه المرحلة الصعبة، ويفترض الاعتماد خلال هذه الفترة على الإنتاج المحلي».

 ويضيف لـ»البناء»:  «نحن جاهزون لاستئناف العمل فور الحصول على التراخيص. لدينا قسم جاهز للإنتاج الدوائي وننتظر الحصول على الموافقات اللازمة من وزارة الصحة لرفد السوق المحلية بمنتجات وفق معايير عالمية صُمِّم المعمل على أساسها».

ويتابع: «منذ بداية أزمة وباء كورونا ركزنا جهودنا على المعقمات والمطهرات المتوافقة مع متطلبات منظمة الصحة العالمية وتواجدنا في السوق السورية وفق شروط التصنيع الجيد أو GMP”.

ويختم  مقدسي بأنّ للصناعات الدوائية «مسؤولية اجتماعية ودوراً في تحسين الواقع الاقتصادي للمنطقة والمجتمع المحلي، عبر الاعتماد على أبناء المنطقة كيد عاملة»، مؤكداً قدرة الشركة على تشغيل ما بين 300-400 عامل، إضافة إلى تخصيص جزء من أرباح الشركة للأعمال الخيرية، خاصة لذوي الشهداء، «علّها تسهم في تخفيف معاناة  المجتمع السوري في ظلّ العقوبات».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى