إنعاش لبنان الكبير أصبح مستحيلاً
} د. وفيق إبراهيم
تُقدمُ المبادرة الفرنسية مشروعها على أساس حرص تاريخي على لبنان الذي أسسه الانتداب الفرنسي قبل قرن تقريباً.
بعد هذه المرحلة الطويلة، تعرّض لبنان الكبير لسلسلة تغيرات نتجت من صراعات الإقليم العربي والشرق – اوسطي من جهة وتداعياتها على الداخل من جهة ثانية، وصعود قوى لبنانية جديدة من ناحية ثالثة تؤدي إدواراً داخلية وخارجية.
كانت هذه التأثيرات تدفع نحو تطور «لبنان الكبير» الى معادلة جديدة تنزع عنه معادلة قوته في ضعفه، لتنتج بلداً جديداً يدافع عن أرضه متفاعلاً بإيجابية مع الإقليم والعلاقات الدوليّة.
هذا الوضع الجديد هو غير قابل للإنجاز الا بتراجع أدوار القوى ذات الارتباط الفرنسي – الخليجي الأميركي في إنتاج السياسات اللبنانية.
كان الأمر ذاهباً بهذا الاتجاه بدعم من الرئيس ميشال عون وتياره الوطني ورئيس المجلس نبيه بري وحزب الله مع تحالفات وطنيّة من كل المذاهب والطوائف المسيحيّة والإسلاميّة.
التأكيد هنا ضروريّ بأن هذا البديل ليس مثالياً او مدنياً، لكنه كان على الاقل اكثر تعبيراً عن العلاقات بين الطوائف اللبنانية بحد وسطي من أوزانها وتفاعلات ايجابية مع الاقليم.
هناك اذاً الدور الإقليمي لحزب الله، الحدودي مع فلسطين المحتلة والمحارب للإرهاب في سورية والناشر لثقافة جهادية في اليمن والعراق وبعض أنحاء آسيا الوسطى الى جانب إنتاج فريق عون ثقافة مسيحيّة جديدة تختلف عن ثقافة القرنين التاسع عشر والعشرين المتّسمة بارتباط بنيويّ بالمصالح الغربية من الفرنسية الى الأميركية.
فهل من باب المصادفات الكشف عن انهيار لبناني اقتصادي كامل صنعته طبقة سياسية غربية الاتجاه بشكل تراكمي منذ ثلاثة عقود والإعلان عن عودة فرنسية الى لبنان تحمل مشروعاً قالت عند وصولها الى بيروت أنها لإنقاذ لبنان من الانهيار ولكسب تأييد لبناني تعمّد الرئيس الفرنسي ماكرون «تقريع» الطبقة السياسية اللبنانية الموالية للخط الفرنسي الاميركي الخليجي معترفاً بالدور الأساسي لحزب الله على اساس انه فريق لبناني وازن.
لقد قامت خطة ماكرون على عناصر عدة:
الأول كسب ثقة اللبنانيين بإظهار اعتدال في التعاطي مع فئاته السياسية، والثاني تعميم موقف فرنسي يزعم انه يريد حكومة تتمثل فيها كل تيارات لبنان.
ويذهب الثالث إلى التهديد بانصياع السياسة اللبنانية لمشروعه او ترك لبنان الى الانهيار الاقتصادي. فيما يجزم العنصر الرابع ان المبادرة الفرنسية تحمل مشروع عقد جديد لمعادلة أساسية تحكم لبنان.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعلن بشكل صريح ان لبنان الكبير الفرنسي الماروني انتهى، الى جانب ان صيغة لبنان الكبير التي اصبحت مارونية – سنية مع دور شيعي هي بدورها منتهية.
لكن تكليف الفرنسيين لمصطفى أديب بتشكيل الحكومة بدا وكأنه امتداد لعصور الانتداب ومرحلة غازي كنعان ورستم غزالة. وابتدأ الفرنسيون يكشفون خفايا مبادرتهم بشكل تدريجي، حتى يتبين ان العقد الجديد المزعوم ليس إلا محاولة للعبور فوق التغيرات التي تجذرت في لبنان منذ اربعة عقود على الاقل.
كما اتضح أن الهراوة الأميركية جاهزة لدعم المبادرة الفرنسية وذلك بالإعلان عن عقوبات تستهدف محور بري – حزب الله فرنجية وحلفائهم.
فأصبح هناك طريقتان مباشرتان لاخضاع لبنان هما العقوبات الاميركية والتهديد بترك لبنان الاقتصادي لانهيار يؤدي فوراً الى حالة عميقة من الفوضى لن ينجو منه الكيان نفسه.
هناك عامل ثالث وهو الاستثمار المتفق عليه في موقف خليجي يتظاهر بالإهمال في موضوع الحكومة الجديدة للبنان، فيما انه يؤثر في الإفتاء السني ومرجعيته ورؤساء الحكومات السابقين وكامل تيارات حزب المستقبل حتى أن أحداً لا يصدق ان السعوديين يقبلون بترك الساحة اللبنانية للنفوذ التركي الإخواني، لكنهم يعتقدون ان المبادرة الفرنسية وسيلة متمكنة لتحجيم الدورين التركي والإيراني في لبنان.
بلاد الارز اذاً في المرحلة الأخيرة من اكتمال ملامح المبادرة الفرنسية على اساس حكومة مستقلين تمسك بها فرنسا مباشرة بالتعاون غير المرئي مع الخليج والاميركيين.
والا كيف يمكن تفسير محاولة انتزاع حقيبة وزارة المال من الشيعة والابتعاد عن توزير مقربين من حزب الله؟
بذلك تنكشف لعبة فرنسا بأنها محاولة لتأسيس حكومة فرنسية الاتجاه تحاول إحياء «لبنان الكبير» عبر القفز فوق موازين القوى الداخلية والضغط المسيحي – الكهنوتي على عون – باسيل لنسف تحالفهما مع حزب الله والاختباء داخل الخيمة الفرنسية – الاميركية وهم يلعبون على حاجة باسيل الى تأييد غربي يلبي له طموحاته الرئاسية.
هل هذا ممكن؟
إذا كانت «اسرائيل» لم تتمكن من إلغاء الدور المقاوم لحزب الله، وفشل الإرهاب بدوره من مجرد الوقوف في وجهه، فإن المحاولة الفرنسية للوثب العمودي فوق موازين القوى لن تؤدي الا الى السقوط في هاوية التاريخ، وذلك تماماً كحال الدور الفرنسي العالمي الغائب منذ نصف قرن ولن تتمكن فرنسا من استرجاعه من ميدان لبنان تمسك به موازنات قوى جديدة لا تعسكر في «الكي – دورسيه».