اجتماعُ الأديان.. في رحيل رجل!
} مريم ميرزاده
لم أسمع عنه الكثير. أقصد لم أعرف الكثير عن حياته وشخصيته إلا ما كانت تعرضُه القنواتُ الإيرانية خلال مكوثي في إيران بين الحين والآخر، ومراتٍ عدةَ رأيتُ وجهَه في الشاشات العربية رغم قلة متابعتي لأخبار العالم.
لا أنكرُ أنّ كاريزما من نوعٍ خاص كانت تحيطُ به حين رأيتُه للمرة الأولى، لا سيما بعدما عرفتُ موقعَه في البلاد والعالم الإسلامي ودورَه الصعب جداً منذ فجر التاريخ، فكيف بزماننا الراهن؛ «التقريب»!
أعترفُ بأنّ معرفتي العميقة بشخصيتِه وصفاته المعنوية والأخلاقية كانت بعد رحيله عن هذا العالم، أي أنها لم تتجاوز الأيام ربما. قرأتُ الكثير عنه خلال الأيام والأسابيع الأخيرة. تابعتُ الندوات التي أقيمت لتكريمه وتعظيم الدور البارز الذي كان يلعبه بين الأديان والمذاهب ومناهضته للفكر التكفيريّ وسعيه الدؤوب لاجتثاث جذوة هذا المرض الذي دفعت المنطقة الإسلامية جرّاءهُ عظيمَ الثمن.
يروقُني أن أسمّيَه «الشيخ محمد علي». ربما لأنّ الاسمَ وحده مقروناً بالشيخ يليقُ بعظمة هذا الحِمل الثقيل – رغم ما يحملُه من مُثُلٍ عليا وتسامح – الذي تعهّدَ به هذا الرجل وحده من دون أن يُلزِمَ أحداً على إعانتِه، فكانَ الزهدُ يربو في نفسِه ويتجلّى في سماحةِ محيّاه.
ليس سهلاً تقريبُ المذاهب. لم يكن سهلاً يوماً. كذلك تذليلُ النعرات والعصبياتِ والأواصر التاريخية المتحدّرة من التقليد والموروث والأيديولوجيات المتعددة تعدد الانتماءات على أنواعها، والتي كثيراً ما تهمّشُ الحقائقَ لتُبرِزَ المصالح. عرفتُ عن هذا الرجل مهمّتَه الكبرى في لمّ شمل المسلمين حول طاولات الحوار والتلاقي والتلاقح الفكري. وقرأتُ له في مجال الفقه والفكر والعلم والمعرفة وتبحّرَه في الفلسفة المعاصرة ومكامن الضعف والقوة في الفكر الإسلامي المعاصر. ولعلّها كانت صدفةً أن صادفتني بالأمس بين أوراقٍ أطالعُها ضمن دراستي الفلسفية، مقالةٌ لهذا الرجل حول «العولمة في الفكر العربي».
أقولُ رغمَ ذلك، إنّ كلَّ ما عرفتُه حتى الساعة عنه كان في كفّةٍ، وفي الكفّةِ الأخرى هذا الحدث الذي تصدّر بعض الصحفِ أمس، وتناقلته صحفٌ ووكالاتُ أنباء أخرى في إيران والمنطقة؛ «لبنان يؤبّنُ رائدَ التقريب».
لبنان المتعدد المتلوّن يؤبّنُ رائدَ التقريب.. كم مرةً شهِدنا حدثاً من هذا النوع في لبنان والمنطقة؟!
لبنان الذي لم يخرج بعد من قلب أزماته الصحية والمالية والاقتصادية والسياسية، لبنان بشخصياته المتنوّعة في انتماءاتها والتي قلّما اجتمعت ربما عند طاولةٍ واحدة وفي شاشةٍ موحّدة. لبنان ببطركيّتِه ودار فتواه ومجلسه الشيعي الأعلى وجمعياته الإسلامية والمسيحية والسنية والشيعية والدرزية، بلجانه الأسقفية وحركاته التوحيدية العرفانية وحركاته الإسلامية ومؤسساته الإعلامية المتباينة في انتماءاتها السياسية، الكلّ في ملتقى تأبين الشيخ «محمد علي» – لبنانياً – على المنصّة الافتراضية، رغم كل ما يعيشُه لبنان اليوم!
لا أعتقدُ أنّ هذه الصورةَ تكرّرت كثيراً وبهذا الشكلِ في حدثٍ من هذا النوع على مدى القرنِ الأخير. فأيُّ ثُلمةٍ قد تركَها رحيلُ هذا الجليل في جسدِ الإسلام حتى سارعت كل الأديان والطوائف إلى مشاركة أصحابِ العزاءِ رثاءَه ونعيَهُ حتى صاروا أًصحابَ العزاءِ جميعاً. أياً يكن، فلا شكّ بأنّها كانت ثلمةً تشبهُ في تأُثيرها انفجارَ بيروت الأخير.. تزلزلَ بها البحرُ وارتجّت اليابسة، فبلغَ وقعُها كلَّ شرفاتِ المنازل، دون تمييزٍ بين الألوان والأطياف.
أما ما هي أسبابُ هذا المجد؟ فلا بدّ أنها العلمُ والمنطق والاستدلال القويّ مقروناً بالإيمان والشخصية المعنوية الزاهدة عن الدنيا الرامية إلى الآخرة، لا بدّ أنه هذا التعالي والترفع الذي لا تَشوبُه كثرةُ المهماتِ والواجبات ولا تخطفُ بصرَه الأضواء.
وحدَها الكلمة الطيبة في سيرةِ الشيخ التسخيري، هي ما كانت مشتركةً بين القادمين من الأديرةِ والكنائس، وشيوخ المساجد والجوامع، وروّاد الفكر والفلسفة والمنطق وسائر من عرفَه عن قرب. لعلَّ لغزَ هذا الرجل، كان صفاءَ الروحِ وإيمان القلب، وتوقّد العقلِ وبلاغة اللسان. فبتلك الهِباتِ الربّانية، أمسكَ كلَّ القلوبِ في قبضتِه، فكانَ نموذجاً لازمنياً لامكانياً للإنسان الباحثِ عن الكمال، للعارف الذي يجري كلامُ الحقّ على لسانِه.
أمس، بدا الجمعُ بذاتِه أثراً من مهمّة هذا الإنسان في التقريب. قرّبَهم في حياتِه، فالتحموا بعد مماتِه ناظمينَ أجملَ أبياتِ العرفانِ والرثاء، فكانَ المشهدُ ناسوتياً في تجلّيه ملكوتياً في معانيه، يتجلّى الإنسانُ فيه نُقطةً تحوي الكونَ في ذاتِها، فالكونُ هي وهي الكون.. فأيُّ حلولٍ ذاك وأيُّ تجسّد!
لروحه السلام…