زمن النقد!
} تمارا أمين الذيب*
في زمن المعلومة الرقمية، والحركة السريعة، والدائمة، وفي ظلّ ما يسمّى عصر العولمة، بات الإنسان عاجزًا عن تحديد ماهية المفاهيم والمبادئ التي تحكم علاقته مع عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، فأصبح يتخبّط في دائرة مستديرة عقيمة الجدوى.
من هنا، وجدنا أنه لا بدّ من طرح سؤال عن ماهية المبادئ والمفاهيم النقدية التي ترعى اليوم الأدب العربي، وتحديد دور الأدب الوجيز في إرساء مفهوم النقد القائم على مرتكزات صلبة قوامها الفكر العربي البحت، أي مرتكزات مستمدّة من قيمنا، وحضارتنا وتراثنا ودورنا في رسم عالم يشبهنا، ويعكس نظرتنا إلى الحياة والحب والمرأة والطبيعة والفن والأدب والحق والخير والجمال.
واذا غصنا في طاقة مفردة «الأدب» سنجد أنها شاملة، ويصعب حدّها بحدّ واحِد.
واستنادًا الى أقوال أهل العلم فإنّ الأدب يرتكز على اللفظ والمعنى. وهنا يطرح السؤال الكبير: ما قيمة اللفظ إذا كان يفتقر إلى المعنى؟
أما اذا عدنا إلى أصل كلمة الأدب فنراها متأتية من كلمة مأدبة، فقد كان العرب في الجاهلية يُطلقون على الطعام الذي يدعون إليه الناس مأدبة، وبعد دعوة الرسول محمد إلى الإسلام تحوّل المقصود بكلمة الأدب إلى مكارم الأخلاق، حيث جاء في الحديث النبوي: «أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي»، وبعد ذلك تطوّر مفهوم الأدب في العصر الأموي إلى التعليم، فكان المُؤدِّب يقوم بتعليم الشّعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم، وفي العصر العباسي سطع اسم ابن المقفع في رسالتي الأدب الكبير والأدب الصغير القائمتين على الحكم والنصائح، وبهذا فإنّ مفهوم الأدب أصبح شاملًا.
وكما قيل: الآدب يدعوك لطعامه، والأديب يدعوك إلى أفكاره وعواطفه.
وهنا لا بدّ من تسليط الضوء على المدارس النقدية في وطننا العربي، ومدى أهميتها في ارساء الفكر والإبداع الذي يحاكي العقل والقلب والروح. ومعرفة ما إذا كانت هذه المدارس تحاكي الأدب والأدباء في أزمانهم وعصورهم كافة؟
ولدى التمعن في الدراسات والاتجاهات النقدية السائدة في الوسط العربي نجد أربعة اتجاهات سائدة:
أولًا: الاتجاه الذي يعتمد الثقافة العربيّة النقيّة، التي تأثرت وما زالت تتأثّر بالقرآن الكريم والحديث النبويّ.
ثانيا: الاتجاه الذي يربط بين الثقافة العربيّة الإسلاميّة والثقافة الغربيّة، وفي الوقت نفسه يحافظ على الأصالة العربيّة.
ثالثا: الاتجاه الذي تبرز فيه الثقافة الغربيّة؛ فيُطبَّق منهجُ نقّاده، ويُعمَل بمبادئها ومقاييسها.
رابعا: الاتجاه النقديّ الإسلاميّ، الذي يهتم بجوهر العمل الفنيّ وقيمه، ويسلّط الضوء على الشخصيّة الإسلاميّة وتراثها العريق.
وفي عصر سريع الحركة، ارتأينا في ملتقى الأدب الوجيز لزوم تحديد مفاهيم نقدية واضحة الأسس تحاكي ذوقنا وحسنا وثقافتنا العربية والمستمدة من رؤيتنا إلى الحياة والكون كي لا نتماهى مع السائد.
وانطلاقًا من المبدأ القائل بأنّ من لا يحدد أسس عمله سوف يعمل على أسس تمثّل فكر غيره، مع العِلم أنّ ذلك الفكر قد يتقاطع معه في نقاط محصورة ومحددة، آثرنا تحديد منطلقاتنا الفكريّة والنقديّة.
غالبًا ما كنّا نسترق السّمع إلى المستشرقين الذين يكرّسون وقتهم لدراسة الفكر الشرقي والحضارات الغابرة والأديان الثلاثة التي انبثقت من أرضنا. أما اليوم لقد أصبحنا نتباهى بأننا «مستغربون». وهذا المصطلح جدير بالتّوقّف عنده نظرًا لما يتضمن من تضاد.
فبلاد الشرق الزاخرة بالفكر والفلسفة التي وضعت أسس الحياة المستمدة من الأديان والحضارات المختلفة التي تعاقبت على هذه الأرض، وصولًا إلى الإسلام، أصبحت اليوم تقع في عتمة مدقعة، وكأن الشمس أشرقت عليها في أوج الزمن فحاصرتها في قمقم زجاجة. أما الأمم البعيدة فقد ابتدعت مئات الشموس التي تقيهم شر غيومهم.
وهنا لا بد من الاستشهاد بخطابات أدونيس وإنتاجه الفكري واستشهاداته بأقوال كبار المفكرين والنقّاد. فمن المعلوم أنّ أدونيس مفكّر حداثي، وتقدُّمي، ينفر مما هو سلفي وماضوي، أو ما يسميه عبد الله الغذامي «شهوة الأصل». فالحداثة التي ينادي بها أدونيس حداثة تمتد جذورها إلى أعماق التراث العربي، ذلك أنّ جذور الحداثة الشعرية بالنّسبة إليه، تكمن في النص القرآني.
وهنا لا بدّ من التركيز على أنّ التطور هو ميزة الإنسان، والإنسان الذي لا يقف على أرضية صلبة من علم وفكر وأسس واضحة لا يمكنه ان ينتج فكرًا جديدًا جديرًا بالتوقّف عنده.
فالأصول موجودة لتنير عقولنا، وعقولنا موجودة لتبدع وتتطور. بهذا المعنى، الحداثة ليست انقلابًا على الأصول، بل هي تغيير في العادات والتقاليد القديمة التي أبى من أبى لم تعد تحاكي عصرنا، أي عصر الإبداع الشامل وغير المحكوم بقيود.
لذلك لا بد أن يكون عقل الناقد مستندًا إلى جذور صلبة وذوات رؤية واضحة نحو مستقبل يحاكي الأجيال القادمة.
تجدر الإشارة إلى أننا لا ننتقد، ولا نرفض شعر التفعيلة أو الشعر الموزون بل نقول بأنّ لكلّ عصر أسلوبًا، ولكل زمن أدبيّ هواجسه وهمومه وتطلعاته. ومن يسعى إلى الكمال يجب ألّا يعد السطور وألّا يقف على البحور.
والواقع أنّ مؤسّس الأدب الوجيز الرّاحل الأستاذ أمين الذّيب قد أوجز كلّ ما قيل أعلاه، وما فاض ويفيض عنها في ومضة واحدة خطّها قبل رحيله:
«الليلة تطابق السائد بين الشاعر والمتلقي».
نعم، تركنا الشّاعر في دهشة، أي في لحظة تطابق ما بين شعاع الشمس والقمر. اكتمل البدر فاندثر نوره في الفضاء، وما أروع نشوة التطابق والاكتمال، إذ تتحول الومضة الى شذرات تنتشر في الفضاء وتولِّد مئات الومضات، أي لحظة انبعاث الحياة من جديد.
*عضو في ملتقى الأدب الوجيز.