الجولات المكوكية لـ «ماكرون»… بين الاستدعاء الاستعماري وتأكيد انتصار المقاومة
د. جمال زهران*
عاد الرئيس الفرنسي (ماكرون)، إلى لبنان مرة ثانية في الأول من سبتمبر، ليلتقي بالرئيس اللبناني ميشال عون، ورموز الطبقة السياسية في لبنان. وقد بدأ زيارته الرسمية، بزيارة الفنانة فيروز، وكان للقاء طابع رسمي، قدّم لها أرفع أوسمة فرنسا، تقديراً لمشوارها الفني الطويل. وتردّد أنّ اللقاء قد تضمّن مطالبة السيدة فيروز، لماكرون، بالإفراج عن المعتقل اللبناني في فرنسا جورج عبدالله، الذي أنهى فترة سجنه الرسمية، ومضى على استمرار سجنه بدون حكم قضائي، مما يُعدّ اعتقالاً غير مبرّر، أكثر من خمسة أعوام! ولم تشر وسائل الإعلام أن كان هذا المطلب للإفراج عن المعتقل المذكور، قد أثير في لقاءات الطبقة السياسية اللبنانية مع الرئيس ماكرون! وكأنّ الأمر لا يعنيهم! وبينما اتسم اللقاء الأول بتصريحات هادئة ومتحفظة من جانب ماكرون، إلا أنّ اللقاء الثاني اتسم بالصراحة والحدة، إلى حدّ التهديدات!
فبين اللقاء الأول واللقاء الثاني، كانت التصريحات الفرنسية الموجهة للرئيس اللبناني ورموز الطبقة السياسية، تتركز حول ضرورة حسم اختيار رئيس الوزراء الجديد والتوافق عليه، وهو ما حدث فعلاً. حيث تمّ التوافق والتكليف الرسمي، على اختيار الدكتور مصطفى أديب (سفير سابق وأستاذ جامعي)، مكلفاً لرئاسة الحكومة وتشكيلها. وهو ما حدث فعلاً، الأمر الذي زادت معه التصريحات الشديدة من ماكرون، بضرورة تشكيل الحكومة خلال أسبوعين، وأنه سيعود في الأول كانون الأول / ديسمبر في زيارة ثالثة، تكون الأمور كلها قد استتبّت واستقرّت وأنه سيبحث السياسات الواجب إتباعها من جانب الحكومة، وهو الأمر الذي يعني فرنسا وأوروبا وأميركا بطبيعة الحال!
وقد تردّد أنّ ماكرون، كان يحمل في يديه «العصا والجزرة»، في مواجهة من التقاه من رموز الطبقة السياسية. فقد هدّد بأنه في حال عدم تنفيذ ما يقوله، فإنّ قرار توقيع العقوبات على هذه الرموز سيصدر فوراً، بتجميد كلّ حساباتهم في الخارج خاصة أوروبا وأميركا، وأنّه يحمل تفويضاً من أميركا بذلك!! الأمر الذي ساعد في خضوع هذه الرموز لتهديداته والإسراع بالموافقة على تسمية رئيس الوزراء، والاستعداد بالتعاون معه لتشكيل الحكومة بأسرع ما يمكن حرصاً على استقرار لبنان وفقاً لما هو مطلوب فرنسياً وأميركياً!
وقد كان لماكرون ما أراد، دون أية اعتراضات أو حتى مناقشات بينه وبين رموز الطبقة السياسية. وقد أصبح واضحاً أنه جاء لكي يعطي التعليمات لمن التقاهم دون مناقشة، وهو ما ظهر ذلك في المؤتمر الصحافي الذي عقده في نهاية الزيارة بحضور وسائل الإعلام اللبنانية والعالمية، وأكد فيه أنه قادم مرة ثالثة لمتابعة ما تمّ الاتفاق عليه. وقد سخر منه بعض من الإعلام اللبناني، بأنّ ماكرون أصبح مهتماً بالشأن اللبناني أكثر من اهتمامه بفرنسا، واصفاً إياه، أنه يهتمّ بلبنان، ويتجوّل فيه، وكأنه قد أصبح الحاكم الفعلي للبنان! يذكرنا بفترة الانتداب واحتلال الفرنسي للبنان. خاصة أنه قد أعلن أنه حضر الاحتفال الرمزي بمرور (100) عام على استقلال، وإنشاء الدولة اللبنانية!
والسؤال هنا: أيّ استقلال ذلك الذي يتحدثون عنه؟! أين الاستقلال اللبناني مع هذا الحضور الفرنسي خاصة والعالمي والإقليمي وبشكل سافر في الشأن الداخلي بلا حياء أو مراعاة استقلال الدولة اللبنانية وعدم التدخل في الشأن الداخلي للبنان بعد استقلالها الكامل!
والغريب أن الغالبية العظمى من الرموز السياسية تسابقت لمرضاة الوكيل الاستعماري الجديد (ماكرون)، الذي استحضر الاستعمار الفرنسي وحقبته السوداء. ولعلّ السبب الرئيسي في صمت هؤلاء هو أنهم أطراف أساسية في مؤسسة الفساد اللبنانية، مثلما هو حادث في النظم العربية الديكتاتورية الأخرى. كما أنهم سيطروا على أموال الشعب بالمليارات لدرجة أنهم يعيشون في ترف من العيش، وبحماية مالية ضخمة، وبغطاء حمائي إقليمي ودولي، وفي المقابل يعيش الشعب اللبناني في فقر وسوء أحوال معيشية، مع تدهور الليرة وهيمنة حكم المصرف، وقامت ثورة شعبية كان مآلها عدم النجاح لإصرار الطبقة السياسية على عدم الاستجابة للمطالب الشعبية وسماع صوت الشعب. فقد استأسدوا على الشعب، وانبطحوا أمام المستعمر الفرنسي (ماكرون)، وفقاً للمثل (أسود على الشعب، نعامة في مواجهة الأجنبي المستعمر)! ووفقاً لمقولة المفكر جمال حمدان، أنّ الحكام يقهرون شعوبهم، بالمقابل قهر الاستعماريين الأجانب لهم! وللأسف! والمهمّ أن «ماكرون»، قد جاء، ولمرتين والثالثة في الطريق، بالأصالة عن نفسه، ولملء الفراغ الأميركي إلى حين الانتهاء من الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لتعود أميركا تمارس نفوذها على النظم العربية لصالح العدو الصهيوني. ومن رأى «ماكرون» الفاشل داخلياً في فرنسا، في المؤتمر الصحافي في ختام زيارته الثانية، يتأكد الاستدعاء الاستعماري بإرادة الطبقة السياسية المهيمنة على الشأن اللبناني، وذلك من خلال الغرور والغطرسة وهو يعطي الأوامر لبعض الأطراف اللبنانيين، بغضّ النظر عن مراضاتهم. إلا أنه لوحظ على ماكرون عدم استعداء حزب الله، باعترافه المباشر بأنه جزء من الحياة السياسية الرسمية في لبنان. وهو الأمر الذي أغضب أطرافاً لبنانية أخرى لا ترتضي ذلك! وتأكد معه استمرار انتصار المقاومة بقيادة حزب الله.
وختاماً: أناشد الطبقة السياسية، بإعادة ترتيب الشأن اللبناني بإرادتهم، بدلاً من خيار الاستدعاء الاستعماري مرة أخرى، فنخسر استقلال دولة نعتز بها، ونعتبرها واحة الحرية في الوطن العربي، رغم كلّ الأمراض السياسية والتمايزات الطبقية والولاءات للخارج بصورة سافرة. كما أنّ المقاومة التي تأكد استمرار انتصارها، أصبح عليها مسؤولية كبيرة ورائدة حاضراً ومستقبلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.