النظام العربي يتخفف من الحِمل الفلسطيني
سعادة مصطفى أرشيد*
لا يزال النظام العربي على الرغم من ضعفه وهوانه، أقوى من الحالة الفلسطينية، التي تآكل الاهتمام بها والعمل من
أجلها من القريب والغريب ومن أصحابها على حدّ سواء، وها قد أخذ النظام العربي بالتخفف من أحمالها بعد أن أسهم طوال عقود في صناعة قيادة فلسطينية متماهية مع شكل وأداء القيادات العربية، فأصبحت القيادة الفلسطينية جزءاً منه وعلى شاكلته، فأداؤها ومنهجها قائمان على رفض الشراكة السياسية إلا موسمياً، وترهّلت مؤسّساتها الحاكمة ثم المعارضة، وتفرّدت بالقرار دون الاحتكام لبرلمان أو قانون.
لم يكن سراً أنّ دولاً عربية وخاصة خليجية ستلتحق بركب الإمارات، تطبيعاً وإذعاناً لغير إرادة شعوبها وبالضدّ من مصالحها ومن أمنها القومي، هذا وإنْ كانت البحرين ثاني دولة تطبّع، فإنّ دولاً أخرى تسير على ذات الطريق، ولن ينقضي هذا العام الأسود، إلا باختراق «إسرائيلي» واسع على الصعد الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية على المستوى العربي، وتغوّل غير مسبوق في الضفة الغربية سيأخذ أبعاداً وأشكالاً تفوق ما سبق أن عانيناه، وما عرفناه لؤماً وقسوة، ذلك أنّ النظام العربي قد تخلى لـ «إسرائيل» عن حق التدخل بالشأن الفلسطيني، وأكثر من ذلك انه تخلى عن المضمون الذي كان يرى أن هنالك بلدا اسمه فلسطين، فبموجب هذا التفويض ستأخذ «إسرائيل» حاجتها من الأرض والمياه والمجال الجوي، وتترك للفلسطيني ما لا يلزمها من مناطق ذات كثافة سكانية، وفي نظرة سريعة عكستها جلسة جامعة الدول العربية الأخيرة، نرى أنّ الدول العربية بمعظمها لم تعد ترى سفينتها تتسع لمقعد فلسطيني، وأصبحت خارج أيّ تحالف مع السلطة الفلسطينية، باستثناء الجزائر وتونس اللتين أخذتا موقفاً محايداً، ولا أظنّ أنّ لموقف يمن عبد ربه منصور هادي أو الصومال أثراً يذكر، لم تستوعب دول التطبيع الجديد الدرس أو تأخذ العبرة من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، فهي مقدمة على تجرّع السمّ وإنْ بدا حلو المذاق للحظات قليلة.
على الصعيد الإسرائيلي فقد كان مثيراً للانتباه إعلان مجلس بلدية القدس ورئيسه أنه قد وافق على السماح لدولة الإمارات بالاستثمار الضخم في شرقي القدس، وهذه الاستثمارات ستقوم بتشغيل عدد كبير من الموظفين والعمال يهوداً ومقدسيين عرباً، ومن الطبيعي انّ هذا الاستثمار سيلحق به نفوذ سياسي للإمارات خاصة في القدس المهملة في خدماتها وعقاراتها، التزاماً برؤية وزير تخطيط فلسطيني سابق (أو أسبق) رأى أنّ على الحكومة الفلسطينية تحميل عبء خدمة السكان المقدسيين للإسرائيليين، وكانت النتيجة أن غابت السلطة وكأنها فكّت ارتباطها بالقدس، الأمر الذي أدّى إلى تسرّب العقارات للجمعيات اليهودية المتطرفة، وفوق ذلك كله فإنّ الإمارات حكماً ستتدخل في موضوع الرعاية الدينية والعمرانية للحرم القدسي ولقبة الصخرة، الأمر الذي سيضعها في مواجهه مع الدور الأردني القديم، ومع الدور التركي النشط والمستجد.
قبيل سفر بن يامين نتياهو لواشنطن للتوقيع على اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين، حرص على أن يدلي بحديث مطول لصحيفته المفضلة (اسرائيل هايوم) قال فيه:
1 – لن تقوم دولة فلسطينية في الضفة الغربية، لا اليوم ولا في المستقبل.
2 – ايّ تفاوض مع الفلسطينيين سيكون بشروط مسبقة منها، أن لا بحث لقضية اللاجئين وحق العودة، ولن أسمح بعودة ولو لاجئ واحد، ولا تفاوض حول القدس فهذه لنا وهي عاصمتنا الأبدية.
3- على السلطة الفلسطينية القبول بما نعطيه لها – رغم ما في ذلك من تنازلات مؤلمة – دون أية زيادة، لن نعطيها إلا جيوباً سكانية (معازل)، ولهم الحق في أن يطلقوا عليها اسم دولة، أو حتى إمبراطورية إنْ أرادوا.
أمام زحمة الأحداث وتداعياتها، يقف الفلسطيني الرسمي حائراً ومرتبكاً، ففي حين تلتحق البحرين بركب الإمارات، ويصرح بن يامين نتنياهو انه اتصل بعدد كبير من زعماء العالم (ومن المؤكد أنّ بينهم زعماء عرب) وأنهم أيّدوا خطواته في ضمّ الأغوار والمستوطنات، ومع ذلك يطلّ علينا المستشار السياسي لوزارة الخارجية الفلسطينية مصرّحاً لوكالات الإنباء (ومنها وكاله شهاب نيوز): أنّ إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية تعانيان من عزلة دولية شديدة بسبب الدبلوماسية الفلسطينية. وفي حين قال الرئيس في خطابه أمام الأمناء العامين أنّ الشعب الفلسطيني أسقط صفقة القرن ومشروع الضمّ، نقرأ في البيان الختامي للاجتماع عن تشكيل لجنة قيادة للانتفاضة الشعبية لإسقاط صفقة القرن التي قال الرئيس إنها قد سقطت، وفي حين يرفض مجلس جامعة الدول العربية الإصغاء لنا ويطيح بمشروع القرار الفلسطيني، يصرح أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير على تلفزيون فلسطين: لقد تمّ تبني جميع بنود المشروع الفلسطيني، وفي دلالة أخرى على تخلي النظام العربي عن السلطة الفلسطينية، فقد قام الوزير القوي في الحكومة الفلسطينية حسين الشيخ بزيارة للدوحة في أواخر الشهر الماضي، وطالب القطريين بقرض جديد وبجدولة القرض القديم، ولكن القطريين لم يعطوا جواباً، باعتبار أنّ عدم الجواب هو جواب، وقال عضو آخر في اللجنة المركزية أنّ الدول العربية ترفض إقراض السلطة (وليس تتبرّع) وذلك لدفع رواتب الموظفين، أما السفير الفلسطيني في القاهرة، فقد أفاد أنّ قطر والسعودية ترفضان دعم السلطة أو إقراضها، فيما يردّد بعض العارفين ببواطن الأمور، أنّ رئيس الوزراء اشتيه بصدد طلب قرض من البنك الدولي، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تتمّ الموافقة عليه دون اشتراطات تحدّدها واشنطن، الأمر الذي يعني تنازلات أكثر إيلاماً وانحناء إمام الشروط الأميركية الإسرائيلية.
الثلاثاء الماضي تلقى الرئيس عباس اتصالاً حاراً ومجاملاً من الشيخ إسماعيل هنية والشيخ صالح العاروري، أكد الشيخان دعمهما للرئيس وللموقف الرسمي الفلسطيني، ولكن دون أن يغادر الرئيس مربع التفاوض وإنْ كان طريقه غير سالك، ودون أن يغادر الشيخان مربع المقاومة والذي هو أيضا شبه متوقف، ولكن لم يتمّ الحديث أو التطرق إلى اللجنة التي دعا إلى تشكيلها اجتماع الأمناء العامين في بيانه الختامي، والتي ستشكل من شخصيات وطنية وازنة لبحث موضوع الانقسام والوصول إلى نتائج من شأنها انهاءه خلال خمسة أسابيع وها قد انقضت نصف المدة دون أن تتشكل اللجنة.
أما المواطن الفلسطيني العادي، فقد نظر إلى الإعلان عن تشكيل القيادة الوطنية الموحدة لقيادة الانتفاضة الجديدة بكثير من الريبة والحذر وأحياناً السخرية، الأمر الذي كان واضحاً بضعف الإقبال الشعبي على المشاركة بفاعليات يوم الثلاثاء الماضي، فالفلسطيني لا يرى أنّ من قاد العمل طيلة عقود، وأوصل الفلسطيني إلى هذه الحالة بقادر على فعل أفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة