هل يكشف حلّ عقدة «المالية» عقداً مستترة أخرى خلف طرح المداورة المفخخة…؟
} علي بدر الدين
«اشتدّي يا أزمة تنفرجي”. قول يحفظه اللبنانييون عن “ظهر قلب”، وقد عاشوه وخبروه ودفعوا ثمنه، دماً ودموعاً وتهجيراً ودماراً، خاصة في الحروب والصراعات التي كانوا شهوداً عليها وضحاياها، منذ ما قبل ولادة لبنان الكبير سنة ١٩٢٠ وما تلاها من فتن ومعارك طائفية ومذهبية، على السلطة والنفوذ وفرض “الخوات” و “الأتوات” وحروب الإخوة في المناطق والشوارع والأزقة. وقد أنتجت حرباً أهلية سنة ١٩٧٥ امتدّت لغاية سنة ١٩٨٩، وكلما كان يتفق المتقاتلون على وقف إطلاق النار والتهدئة، والاتفاق على الهدنة، كانت تشتدّ المعارك وتشتعل المحاور ويسقط قتلى وجرحى بأعداد مضاعفة.
يمكن ما يحصل في موضوع تشكيل الحكومة شبيه بما كان يحصل في المعارك، ولكن سياسياً، لأنّ الخشية من التصعيد قبل الاتفاق على تشكيل الحكومة، وقد يكون الثمن الوطن بأسره، وبدلاً من سقوط عشرات الضحايا، قد يسقط الشعب برمّته ضحية فساد الطبقة السياسية وجشعها وتغليب مصالحها، وارتهانها وتبعيتها للخارج وطلب حمايته، ومن بعدها الطوفان.
غير أنّ هذه الحروب العبثية المدعومة خارجياً، تمّ وقفها باتفاق عُقد في مدينة الطائف في السعودية بمشاركة أمراء الحرب أو من يمثلهم وبرعاية خارجية، ولكنه بعد ٣٠ سنة من الاتفاق، لم ينفذ منه إلا ما يخدم مصالح الذين اتفقوا عليه، دولاً وأفراداً وطوائف ومذاهب. وما زال الوطن والمواطن يدفعان ثمن هذا الاتفاق الملغوم والعصيّ على الفهم والتنفيذ، ولم تخرج محاضره ونصوصه إلى النور لأنه مقفل عليها كما يُقال في خزنة رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، من دون ان يتجرأ أحد في الدولة والحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة والأحزاب السياسية بكلّ مكوناتها من المطالبة بفك أسرها وإخراجها إلى العلن، ليطلع عليها الشعب اللبناني، وتحديداً الأجيال المتعاقبة منه، أقله الذين ولدوا مع ولادته أيّ منذ ١٩٩٠، ولا يعرفون عنه سوى اسمه لكثرة ترداده، خاصة في وقت الاستحقاقات الوطنية الكبيرة، التي تكون موضع تجاذب وسجال وخلاف في الاجتهاد والتفسير وإثبات “حقوق” الطوائف والمذاهب، وما يتعلق منها بالميثاقية التي يفسرها كلّ فريق سياسي او طائفي أو مذهبي على مزاجه ووفق أهوائه ومصالحه وما يخدم توجهاته وغلبته.
لا شك أنّ معظم الذين شاركوا في صوغ الاتفاق أو شهدوا عليه لا يزالون على قيد الحياة ومنهم تشكلت الطبقة السياسية الحاكمة على مدى ٣٠ سنة. وهم يعرفون تماماً زواريب وثغرات وممرات، ونقاط ضعف هذا الاتفاق وأين تكمن قوّته، وكيفية النفاذ منها وتفسيرها لمصلحتهم وفي اللحظة المناسبة، من دون الرجوع الى النص الكامل والحرفي، لأنّ الشريك الآخر المستجد، أياً كان، يردّدها كالببغاء ولا يفقه مضمونها ولا كيفية ومتى يمكن استخدامها، لأنه يفتقد إلى النص الحقيقي المخبّأ منذ ثلاثة عقود.
هذه فعلاً إشكالية بل مشكلة فعلية تعقد وتؤجّل الحلول، وأكثر من ذلك قد تولد صراعات وحروباً لا تنتهي.
وتحت عنوان الميثاقية في التوقيع الثنائي أو الثلاثي، أو في توزيع الحقائب، وتحديداً حقيبة المال ومن حصة أيّ طائفة أو مذهب تكون يشهد اللبنانيون فصولاً من السجالات والتفسيرات، وعما إذا كانت واردة في محاضر الطائف أو غير وارد، وهي ليست في المتناول، وأدّت ولو شكلاً إلى تعطيل تشكيل الحكومة.
أعتقد كما غيري أنّ القضية لا تكمن في حقيبة المال، أو لمن ستؤول، او هي من حق أي طائفة أو مذهب، بل لأنّ وراء الأكمة ما وراءها من أجندات وغايات واستهدافات. السؤال… أين هو الضرر إذا كانت هذه الحقيبة من حصة الشيعة وبها يكتمل عقد الحكومة وإطلاق ورشة الإصلاح والمعالجة الجدية للملفات الساخنة وولوج الحلول؟ وهل إذا حصلت المداورة وتسلّمها شخص من طائفة أخرى أو مذهب آخر، هل ستتغيّر المعادلة ويكون أكثر أمانة وإخلاصاً للوطن وأحرص على المال العام؟
مع التأكيد على رفض كلّ الخيارات الطائفية والمذهبية لقيامة الوطن، وبناء الدولة ومؤسساتها، وضدّ إعادة إنتاج الطبقة السياسية ذاتها او تعويمها في السلطة وتشكيل الحكومات لأنها فاسدة ولا تؤتمن على مواصلة سياستها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وهي المسؤولة المباشرة عن الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، وعن الفساد والمحاصصة والنهب، وإفقار الشعب وتجويعه وتحويله إلى مجرد دمى لا حياة ولا روح فيها ولا دور، غير أنّ الضرورات تبيح المحظورات، وإنّ السيّئ أقلّ ضرراً من الأسوأ، وأنّ التغيير المطلوب والإصلاح الموعود، الذي سيغدق على اللبنانيين فائضاً من المن والسلوى ورغد العيش البحبوحة وتسديد الديون واسترجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة، ومعروف من نهبها وهرّبها، والإفراج عن أموال المودعين في المصارف وإعادتها لأصحابها. هذه ليست حقائق بل هي رغبات وآمال وأمنيات، ولن تحصل دفعة واحدة وبين ليلة وضحاها، ولن تحققها العصا الفرنسية ولا الكرباج الأميركي، ولا الحكومة التي يعملان على فرضها بالقوة على الشعب اللبناني الذي اكتوى من الطبقة السياسية المستبدّة عليه والمطيعة جداً لأوامر الخارج الذي يمتلك أسرارها وأوراقها ويلوّح بها كلما أراد…
نقولها ببساطة وواقعية… انّ تعقيد تشكيل الحكومة بسبب هذه الحقيبة أو غيرها، ليس واقعياً ولا مقنعاً، ولا يسهّل عملية التشكيل، لأنّ التعقيد في مكان آخر، هو في الضغوط والتهديدات الأميركية بالعقوبات ومحاصرة لبنان سياسياً واقتصادياً، وفي سياستها المنحازة للكيان الصهيوني، وفي محاولة الإمساك بأوراق رابحة ومكاسب سياسية جديدة لتوظيفها في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
إنّ المبادرة الفرنسية المعلن منها والخفي، وقعت في خطأ الاستعجال عندما حدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهلة لتشكيل الحكومة، وكأنه يجهل مماحكات ومطالب وتحاصص الطبقة السياسية، وأنه لا يمكن تطويعها وتدجينها بمبادرة كهذه، هذا الخطأ بالتقدير أو المقصود لغاية غير معروفة دفعه إلى احتمالات منها إما سحب مبادرته أو تجميدها، أو تمديد المهل مرة تلو الأخرى، أو توسيع دائرة اتصالاته ومشاوراته داخل لبنان وخارجه والاستعانة بغير صديق إقليمي ودولي لمساعدته على تليين مواقف القوى السياسية لتشكيل الحكومة، أو اللجوء أحياناً إلى سياسة العصا والجزرة، والاستنجاد بالعقوبات الأميركية القاسية هذه المرة، ولكن عبثاً يحاول، وعليه بدلاً من كلّ هذا اللفّ والدوران في حلقات مفرغة العودة إلى تسليم حقيبة المال للثنائي الشيعي وإبقاء توزيع الحقائب على حاله، كما كانت في حكومات سابقة، حتى لا تعيق المداورة المفخخة عملية التشكيل، لأنّ المطلوب هو الخروج من مأزق الحكومة حتى يقع لبنان في مأزق أخطر وأقسى، بات البعض يردّده أو يرغب به ويسعى اليه…
وأعتقد أنّ المفاوض الفرنسي سوف يفاجأ بأنّ العقدة ليست في الإصرار الشيعي على حقيبة المال فقط أو هو العقدة، إنما هي أيضاً في مكان آخر وعقد أخرى، ومصالح وطوائف ومذاهب أخرى. وما عليه سوى القبول بمطلب الثنائي الشيعي حتى تخرج العقد والمطالب والشروط من كلّ ناحية وصوب…