قالت له
قالت له
قالت له: ألا زلت متردداً بالموافقة على مشروعي بالسفر، وبلادنا توقفت عجلة الحياة فيها، ومؤهلاتي تستدرج عروضاً كثيرة تأتيني للعيش في بلاد آمنة، وناهضة وتتنعّم بالعمران، وسهولة العيش، وتقدم الخدمات، فإن كان السبب أن نكون معاً، فقد كان هذا طلبي منك أن تسعى أو تدعني أسعى لنسافر معاً ونحصل على عروض عمل تبقينا قريبين ولديك مؤهلات تزيد عن مؤهلاتي وسيرة ذاتية أهم ما يجعل الفرص متوافرة؟
قال لها: كان يقلقني أمر وصاروا ثلاثة.
قالت: ما هو الأمر؟
قال: إنني رغم محبتي لكل مدينة عربية، وارتياحي لمشروع سفر مؤقت لمدن الخليج الناهضة وفي مقدمتها دبي التي تتزين كمدينة أوروبية، وتتاح فيها فرص عيش هادئ وسلس، وهي المدينة التي تتحدثين عن السفر إليها، فإنني لم أستطع أن أتصالح مع مغادرة بيروت والشام، فالمدينتان تقيمان بين الضلوع، ورائحة البحر في بيروت وعطر الياسمين في دمشق، ونسيم الصباح وعليل المساء، والسير في الأسواق نهاراً وليلاً والتسكع على الأرصفة، وسماع صوت فيروز بين شبابيك الحارات، ورائحة البن المتصاعدة من البيوت، هي أكثر من مجرد اشياء ووسائل راحة، فهي روح لم أمتلك شجاعة الانسلاخ عنها، فوحدها تُشعرني أنني في بيتي، وأي بيت خارجها أمتكله يمنحني الإحساس بالمؤقت كنزيل في فندق، ينتظر لحظة العودة إلى بيته.
قالت: لكن الضرورات التي دفعت موجات بشرية للزحف بين مساحات من الجغرافيا عبر التاريخ هي سنة العيش بحثاً عن الحياة الأسهل والأفضل، فلماذا تحولها إلى مناحة؟
قال لها، أنا لم أرفض السفر المؤقت لحين أو لقضاء إجازة فأنا عاشق للسفر ولدبي خصوصاً، لكنني أمام مشروع استقرار يشبه البقاء في الشارع من دون ثياب لا أستطيعه ولا أستسيغه، وأنت تتناسين عند التحدث عن موجات الهجرة البشرية عبر التاريخ والجغرافيا أن وجهة هذه الموجات المهاجرة كانت إلينا وليس من عندنا، والهجرات المعاصرة التي يستسيغها سواي لا تلزمني فأنا لا اعتبر الحديث عن الخبز والزيتون في الوطن مجرد شعر بل خيار.
قالت، وما هي زوائدك الجديدة حتى صارت الموانع ثلاثة؟
قال لها: لا تسخري من مثلثاتي.
قالت: عساها لا تصير مربعاً.
قال: حتى الآن مثلث .
قالت: هات ما عندك.
قال لها: لم تعد دبي المدينة التي يمكن أن نرتاح فيها أو نشعر بالأمان في شوارعها ومطاعمها فتفاهمات التطبيع مع الاحتلال التي تصدمني بدرجة ما فيها من وقاحة تخفيني من تبعاتها وتداعياتها، فأنا فلسطيني مقيم في بيروت وأنت سورية، وصحيح أننا غير منخرطين في عمل سياسي، لكن ماذا سيكون شعورنا عندما ندخل الى مطعم ونكتشف عدد رواده من الكيان والمستوطنين ورجال الأعمال الوافدين تحت ظلال التطبيع، كيف سيكون حالنا في شارع تمر أجسادنا بين زحام أحشائهم ورائحتها الكريهة، وأصواتهم النشار وهم يتحدثون بالعبرية، وماذا سنفعل في الشركات التي سنعمل لديها أنا كمهندس وأنت كمبرمجة معلوماتية، عندما يكون المدير أو الزبون أو الموظف الملاصق لنا، من هؤلاء الوافدين، وماذا سنفعل لو كان من ضمن تكليفاتنا المهنية استقبال وفود منهم أو زيارات عمل إلى كيانهم، والأخطر ماذا نحن ذاهبون لنفعل في ذروة توتر قد يشتعل بفعل التطبيع، وقد حول هذه المدن العربية الجميلة إلى مجرد ثكنات يقيم فيها ضباط الموساد يستدرجون اليها حروباً؟ وهل سنشعر بالأمان ونحن نمر من أمام مكاتب شركات جلبها التطبيع، وقد تكون عرضة لغضب مواطنين يرفضون أن تنتهي بلادهم إلى مجرد واجهات أمامية لكيان محتل. بصراحة وبالمختصر، يصيبني الذعر كلما تخيّلت أنك تصابين جراء حادث هناك ناتج عن هذا الخطر المقبل أو تأتين وقد صافحت يداك أيدي هؤلاء القتلة لأن ضرورات العمل فرضت عليك ذلك.
قالت له: أرعبتني وأنت تروي بصوتك المتهدج هذه المخاوف، ألهذه الدرجة أنت تعيش قهر وعذاب التفكير بهذا الخيار؟
قال لها: وأكثر فقد فكرت بما سأقول إذا خيرتني بين أن نبقى معاً أو نفترق، إذا رفضت الموافقة على قرارك بالسفر وتمسكتُ برفضي.
قالت: وماذا قررت؟
قال: لا أريد خسارتك، ولا أريد خسارة نفسي. فبكيت.
قالت: أتعدني بألا تسمح لنفسك بتخيّلي كساقطة بلا موقف ولا مشاعر وأن تكتفي بإبلاغي بما تشعر وتركي أتخذ القرار؟
قال: وما هو قرارك؟
قالت: خبز وزيتون وفيروز وقهوة الصباح وحارات الشام القديمة ورائحة بحر بيروت… ومن الجوع متلنا ما بيموت.