ما بين الخيار والاختيار…
المهندس خالد الرواس
في ظلّ الأزمات المتعاقبة التي رافقتنا على مدى العقود الماضية، ثمة ظاهرة يجب التوقف عندها، لها علاقة بما أنجزناه، نحن اللبنانيين، للبنان، منذ العام 1943، بل منذ ولادة “دولة لبنان الكبير” في العام 1920، حتى اليوم، وحجم تأثيره على مسيرة البلد، وذلك من ضمن قراءة موضوعية، تحاكي الأحداث والمواقف كما هي، من دون زيادة أو نقصان، بعدما سلك لبنان طريقاً وعِراً، معبَّداً بالأشواك، قرابة المئة عام، في ظلّ تعايش “هش” وربما “إكراهي” بين طوائفه، تداخلت فيه الظروف الداخلية والمصالح الخارجية، وتقاذفته أمواج الحروب الأهلية، أدّت الى تكريس حالة عدم استقرار فيه، على الصعد كافة، تحت عناوين متعددة، سوّقها اللبنانيون في ما بينهم على زغل، ليس أوّلها “لبنان الرسالة” و”أرض التعايش” و”العيش المشترك”، وليس آخرها “لبنان بلد المقاومة” و”الحياد الإيجابي” و”الثلاثية الذهبية”، وما بينهما.
فكلّ تلك العناوين لم تنفع في جلب الاستقرار إلى كياننا الصغير، منذ نشأته، مروراً بنكبة فلسطين، حتى اليوم، والسبب الأساس، يعود الى الخلل الحاصل في مسألتي “الخيار والاختيار”، فالاختيارات غالباً ما تكون خاطئة بفعل خيارات خاطئة، أو تكون خاطئة، عن سوء قصد، في ظلّ خيارات صحيحة، فالاختيار يقع عادةً من بين عدة خيارات مطروحة، في أيّ شأن كان، وفي أيّ موضوع كان، فكيف إذا كان الشأن المطروح هو هوية البلد وانتمائه، والموضوع المطروح هو دوره في الحياد أو في المواجهة.
لقد عانى لبنان الكثير في رحلة البحث عن خيارات تجنّبه الوقوع في المحظورات، متمسكاً بالدفاع عن حقوقه، الّا أنّ نظامه الطائفي قد سمح لمكوناته باتخاذ خيارات، ليست الوحدة الوطنية “الفعلية” أحد اختياراتها باعتبارها عامل قوة، حيث بقي تطبيقها شكلياً، رغم التمسك بها – ظاهرياً – من قِبَل مختلف القوى السياسية الفاعلة، مما دفع بالأمور لاختيارات سياسية وتعبوية وإدارية ومالية فئوية، تماشياً مع خصوصيات تلك القوى على حساب خصوصيات المواطنة والشراكة الوطنية، بعيداً عن أسس تكوين الدولة وبنائها، فدفع ثمنها لبنان من أمنه ومن دوره واقتصاده وقطاعاته المالية كافة، أكثر بكثير مما كسب، اضافة الى هدر أموال الناس وأرزاقها، ولا يزال.
فالقوى السياسية في لبنان لم تكن خياراتها يوماً على مستوى المسؤولية الوطنية، لبناء لبنان الوطن، لذلك فشلت تلك القوى في بناء الدولة، ولم يحدّد لبنان يوماً أولوياته، ولم يضع حكّامه برامج وطنية لمواجهة التحديات الصعبة التي عصفت به وبالمنطقة على مدى قرن من الزمن، والتي اشتدّت بعد العام 1948، فجاءت النتائج مدمّرة بسبب الاختيارات الخاطئة في سبل المواجهة من جهة، وفي تعويم المصالح الفئوية الضيقة، على حساب المصالح الوطنية العليا من جهة أخرى، فالإشكالية التاريخية بين مكونات المجتمع اللبناني لم تفارق أذهان اللبنانيين، مانعةً بذلك توحيد الهوية الوطنية، بما أوجد جواً من عدم الثقة المتبادل في ما بينهم، زاد من الاستهدافات الخارجية على البلد بشكل مستمرّ، فسَلَكَ لبنان طريق معالجة مشكلاته بالقطعة، بالتسويات حيناً، وبالترحيل والتأجيل أحياناً، بدلاً من إيجاد الحلول لها، وعمّ الفساد الشامل في الإدارة، ممّا أبقى البلد برمّته في حالة ضعف، وأفقده ثقة الخارج والداخل به على حدّ سواء.
انّ حالة التعددية الطوائفية في لبنان وما رافقها من إشكاليات، منذ بداية عهد المتصرفية، وصولاً الى نهاية مرحلة الانتداب الفرنسي، دفعت بالطوائف، إلى اتخاذ خيارات ضيقة، تتماشى مع رؤيتها ومطالبها وأهدافها، في مسألتي الشراكة والحكم، بعدما وجدت نفسها خاضعة لنظام سياسي تمّ تفصيله انتدابياً لخدمة صانعيه، لا لخدمة المستفيدين منه، معزَّزاً بأذرع له في الداخل، الأمر الذي أوجد حالة دائمة من النفور الطائفي بين مكونات البلد، وشعور دائم بعدم الرضى، كانت سبباً في تحويل لبنان الى ساحة من التنافس الدائم بين قواه الطائفية، ذات الولاءات المتعددة، بما ساهم الى حدٍّ كبير في الابتعاد عن الهوية الوطنية، لقاء الاحتفاظ بالامتيازات الفئوية والمذهبية، المدعومة من الخارج، في مواجهة البعض، البعض الآخر.
فالمراحل المفصلية التي مرّ بها لبنان في تاريخه الحديث، وضعته في مهبّ الريح، بسبب خياراته الخاطئة، لأسباب داخلية وخارجية، فخيار “لبنان قوي بضعفه”، و”لبنان أولاً”، و”طريق فلسطين تمرّ من جونيه”، و”حالات حتماً”، وما سبقها وما لحقها من عناوين، كانت “دسمة” شكلاً و”فارغة” مضموناً، وكلّها كانت خيارات خاطئة، في ظلّ زمن اتفاقيات “كامب ديفيد” و “وادي عربة” و “أوسلو”، وما نتج عنها من اتفاقيات أمنية مع العدو، وظفها الأخير في إضعاف جبهة الصراع العربي معه، مستنداً الى الخلل القائم في موازين القوى لصالحه، لا يزال لبنان يعيش تداعياتها، بسبب خياراته الضيقة واختياراته الفئوية المعرقلة لسبل المواجهة، فمشروع المقاومة في لبنان كان خياراً ضرورياً، في وجه كيان غاصب محتلّ على حدوده، لكنه لم يكن كافياً لتمكين البلد من أن يستعيد عافيته، أو لكي يحقق إنجازاً وطنياً ونوعياً في بناء دولة قوية، قادرة على الصمود، في ظلّ جو من العدالة الاجتماعية، تحصيناً للإنجازات التي حققها هذا المشروع بوجه العدو، أسقطتها طبقة فساد سياسي من أعلى الهرم إلى أسفله، فقضت بذلك على كلّ تلك الإنجازات، وعلى عوامل الصمود المطلوبة للاستمرار والتقدم، فخدمت العدو على الصعد كافة، حين أبقت المعركة بوجهه في حدود الساحة الداخلية، بدلاً من نقلها الى ساحته.
انّ الخيارات المتاحة أمام لبنان اليوم، تجعل عملية اختيار الأنسب من بينها، أمراً صعباً ومعقداً، فالمواجهة وإنْ تكن محدودة، أصبحت مكلفة، والمواجهة الشاملة غير مضمونة النتائج، وعملية الإصلاح معطّلة عن سوء قصد بفعل داخلي فئوي، ينسحب التوصيف ذاته بخصوص مسألة إجراء انتخابات نيابية مبكرة، والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية متهالكة، أما عودة الثقة فأضحت فعلاً مؤجّلاً، والرهان على الوقت بانتظار تغيّر الظروف الاقليمية والدولية، في ظلّ شبه انهيار اقتصادي اجتماعي مالي سياسي، أمرٌ غير مدروس ومؤذٍ للغاية، فالواقع لا يبشّر بحلول وطنية، ولا حتى طائفية، في ظلّ تغييب الأولى وفشل الثانية، وعدم توفر إرادة لأيّ تفاهم وطني في أيّ موضوع كان بين المكونات السياسية الطائفية، ولو بحدّه الأدنى، وبذلك، يكون اللبنانيون قد أخفقوا، بعد مضي قرن من الزمن، في بناء وطنهم ودولتهم، على النحو الذي يليق بهم، كجزء أساسي من حضارة المنطقة، وكشعب عايش التاريخ، ودافع عن الجغرافيا، لكنه لم يتمكّن، بفعل الخصوصية الطائفية والفئوية وعامِلَيْ الغرور والمكابرة، من إيجاد الصيغة المناسبة للعبور بلبنان الى برّ الأمان.
هكذا جرت الأمور، وهكذا ستبقى في المدى المنظور، بانتظار الخيار الأصعب، وللحديث تتمة