«أحوال المحارب القديم»… بطلٌ كليّ القدرة والفضاء ضيّق
طلال مرتضى*
إن تقنية التفكيك النقدي لأي عملٍ أدبي من أجلِ الوصول إلى دواله المخبوءة ومضمراته، تتطلّب محاكاة الأصوات التي تؤطّره، لكونها تسهم وقبل كل شيء بتطويع وإخضاع هذا المنجز الإبداعي للتشخيص والتمحيص على طاولة التشريح.
من المفترض أن أي عمل روائي منجز يكون محاطاً بمجموعة من الأصوات، داخلية وخارجية ومنها داخلية فقط؛ فالصوت الخارجي هو صوت الكاتب وأما الداخلي فهو صوت الراوي الذي يقصّ الحكاية من داخل العمل..
ففي الأصوات الداخلية ينحصر دور الكاتب على تلقين كل ما يريد قوله للشخصيات، وغالباً ما يطلق على هذه الشخصية بــ»الراوي العليم» وهو ذو قدرة كافية على إدارة دفة الحدث إفشاء كل ما يدور في خلد الكاتب، لكونه يحمل سلطة الأخير، وفي الغالب الأعم تكون تلك الشخصية، هي المحورية أو الداعمة أو الشخصية المساندة.
وهذا ينطبق على الشخصية التي أسند لها «الحسن البكري» إدارة دفة حكايته، إذ نجده ومنذ اللحظة الأولى، بل منذ الجملة الأولى قد تخفّف من سلطته المطلقة على نصه وسلم كل أوراقه وعلى دفعة واحدة لرواية العليم والذي فتح بدوره مزاد الحكي بقوله:
«أنا خليفة ود منصور اللحوي والدي مقدم خفر الشيخ مساعد وشيخ أعراب اللحويين وأمي حاجة أم زين النقرابية التقلابية سليلة بيت عز وشرف».
وهذا يفضي إلى نتيجة تدلي بأن «خليفة» هو الراوي العليم والكلّي القدرة الذي يمسك بزمام وخيوط الحكاية كلها، لكن السؤال الأهم والذي صار من الواجب طرحه الآن، هل أراد الحسن البكري من هذا، الوقوف على الحياد وهو ما جعله يرمي بمفاتيحه كلها بيد خليفة أم أنه رضي بدور شاهد عيان لا أكثر ولا أقل؟
وبما أن البكري وكما أسلفت بالقول أعلاه، قد سلم قياد حكايته من ألف بدايتها إلى نون نهايتها لبطله، ثمة كلمة موجزة بات لزاماً عليَّ كقارئ تدوينها على رأس هذه القراءة، فهو استطاع ومن خلال حبكة «أحوال المحارب القديم» أن يدمغ جبين روايته بما نسميه بـ» العلامة الفارقة» وذلك من خلال خيوط أو خطوط الحبكة، والتي فردها وعلى دفعة واحدة داخل نصّه، وهو ما جعلني أكمن قرائياً في هذا المنحى، ظناً مني بأن أحد تلك الخيوط سوف ينسل على حين غفلة من بين يديه، وهذا ما سيمكنني من مقاصصته نقدياً، ولكنني وبكل جدارة اعترف بأنني منيت بفشل ذريع حد وصولي قفلة النهاية..
ففي المعتاد نتناول عملاً روائياً ما، يتشكّل نسيج حبكته من مسار وحيد أو أكثر وغالباً ما يقع الكاتب في هفوة، وهذا ما لم أستطع الإمساك به في رواية «أحوال المحارب القديم» ذات المسارات العديدة والمتداخلة ببعضها البعض..
الإقرار علانية للقارئ بأن نسيج الحبكة مكتمل وسلس يقودنا وبالمقاربة الواقعية إلى أن تلك الخيوط هي بعينها الأساس التشكيلي للمبنى الروائي والذي يقوم بذاته على قوائم عدة منها، الزمان والمكان والحدث.
اذ أردنا تفنيد دور كل من هذه القوائم، لوجدنا أن الراوي العليم والكلي القدرة (خليفة) اتخذ توقيتات مفتوحة لحدثه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قيام حرب التحرير، بدايتها ونهايتها وفترة ذهابه إلى «فكي هارون» للاستشفاء والأمثلة كثيرة.. الخ.
لعلّ قارئاً ما يقول: بأن الراوي وفي مكان ما قد كسر المقاربة الزمنية، لعلّ هذا الاعتقاد صحيح. فالكاتب كثيراً ما لعب على هذا الوتر، لكن كل هذا كان مبرراً، لكون الراوي لم يسلك طريقاً واحدة وهو سائر لتثبيت حدثه على أرض الرواية، بل كان ينتقل في اللحظة الواحدة إلى ضفة مغايرة التي كان يقف عليه، القفز من الزمن الحالي إلى زمن متخيل، (الواقع والمتخيل) وهي انتقالات خاطفة ورشيقة وغير مرئية، وهذا ما شكل نوعاً من الالتباس في بعض الأحيان.
هذه الانتقالات السريعة شكّلت حدثاً كثيفاً ومتنامياً على أرض الرواية «المكان» والذي لا يحتاج لعناء للوقوف على ملامحه، فكل سطر أو مفصل من مفاصل الرواية يجسد مكاناً ما، جنوب السودان، شمال السودان، جبال موية، كروم العنب، مشارف حلفا، دار حامد، تخوم التوج، بطاحين وغيرها وهذا ما جعل من الرواية خريطة غطت كل مساحة السودان.
ولكن وإن صح القول، تبقى علامة كل ما سبق ذكره في المقياس النقدي الكتابة صفر، فالزمان والمكان والحدث ليسا أكثر من لقطات ثابتة نطالعها في فيلم صامت يخلب ألبابنا برؤية مناظره الجميلة والتي سرعان ما ننساها بعد أن نتوقف عن متابعتها، ولكي تتحوّل هذه الصور والمناظر إلى حياة يمكن مقاربتها، وفي أضعف الأوزان على الورق، لا بد من بثّها بشخصيات فاعلة لتقوم بتحريرها من صمتها..
فالكاتب وكما قلت أعلاه، منذ لحظة الروي الأولى دفع ببطله خليفة ليقود مركب الحكاية واشتغل بعناية (أي الكاتب) ليجعل منه الشخصية المحورية الفاعلة وكاد ينجح في مسعاه لولا وقوعه في فخ التواطؤ لصالح «الرضية» التي دخلت إلى ميدان الحدث، لتحدٍّ – حينه من دور خليفة كبطل مطلق، بل وأكثر من ذلك فقد نافسته المكانة في مطارح متعددة، هذا على عكس الشخصيات الأخرى التي بقيت ضمن السياق الذي أعطي لها، مثل بنات فكي هارون، من أدوار داعمة أو سنيدة.
بعيداً عن المعاناة التي واجهتها أثناء قراءتي رواية «أحوال المحارب القديم»، حيث شعرت في البداية بأنني دلفت إلى فخ قرائي ضيق، فالكاتب أطر فضاء مرويته بــ»سماء السودان» وهذا ما يدفعني لسؤاله في هذه العجالة ألم يقص قلمه جزءاً ما من فضاء السودان الفسيح؟
وهذا السؤال لم يأت جزافاً بل ولد بعد إغراق الرواية باللهجة المحكيّة التي نسمّيها نحن أبناء الشام أو اللغة التي يطلق عليها أهل السودان بالدارجي، فأنا أعرف أن اللغة الدارجية في السودان حاضرة بكل نواحيه ومناطقه، ولكن هناك مناطق لا تفهم دارجية منطقة أخرى، فكيف لي أنا ابن الفضاء الأبعد؟
في فقرة ما مرر الكاتب أسماء شخصيات وأماكن، وتلك الأسماء محطّ حدث في واقعنا اليومي، هذا التمرير لم يقدم أي قيمة إضافية للرواية، بل جاء كلزوم ما لا يلزم، اللهم إلا إذا كان الكاتب يريد أن يقول للقراء: أنا أعني الواقع المعاش.
على الرغم من أن الكاتب أطّرَ حدث الرواية وزمانها ومكانها بسماء ضيقة جداً إلا أنه لم يستطع مواراة المغزى الذي جرّه إلى موضوع كهذا، لقد ترك عند نقطة النهاية، زبدة الحكاية والذي نتشارك وإياه كعرب أو شعوب مغلوبة على أمرها على امتداد هذه الأرض، تقول: نحن كشعوب ومهما تطاولت قاماتنا وكثف حضورنا ازداد حراكنا، في النهاية لن نكون إلا جسوراً ومشاريع عبور لولاة أمورنا «حسين الطاهر» وقادتنا الروحيين «فكي هارون».