«أحقر الناس من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم»
} علي بدر الدين
سئل الإمام علي، من أحقر الناس؟ قال: «من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم».
هذا هو واقع حال الوطن، حيث يتفشى الفقر والجوع والبطالة والمرض بين أكثر من نصف اللبنانيين وفق تقارير منظمات «إنسانية» واجتماعية وغذائية دولية التي تتوقع الأسوأ وتفاقم أعداد الفقراء والجائعين، إذا ظلت الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية على حالها من الانحدار المخيف، ومن استمرار الطبقة السياسية المالية المتغوّلة في اعتماد سياسة الفساد والمحاصصة والنهب والهدر والإهمال والحرمان، من دون الالتفات إلى مصلحة الوطن والناس، أو تغليب منطق بناء الدولة العادلة والقادرة دولة المؤسسات وحكم القانون بدلاً من تحويل لبنان إلى مناطق نفوذ ومزارع طائفية ومذهبية وكانتونات، يحكمها أمراء الحرب والسلم والمافيات والشبيحة والسماسرة، الذين يبنون القصور والأبراج المحصّنة من أموال ليست لهم ولا من تعبهم ولا من عرقهم أو من اغترابهم القاسي، بل من أموال الدولة التي أفرغت خزينتها، ومن أموال المودعين اللبنانيين المقيمين والمغتربين التي تمّ السطو عليها، عن سابق إصرار وتصميم من ثلاثي الطبقة السياسية والمصرف المركزي وأصحاب المصارف. رغم محاولات التنصّل من الاتهام والمسؤولية عن ضياع حقوق المودعين الذين تحوّلوا إلى فقراء مع أنّ بعضهم أثرياء.
إنّ جواب الإمام علي الذي يرجع تاريخه إلى ما يقارب ١٤٠٠ سنة ينطبق تماماً على أحقر الناس الذين يجوّعون أوطانهم وشعوبهم، لينعموا هم بالرفاهية وانتفاخ بطونهم من التخمة، في حين تنتفخ بطون الفقراء من الجوع. وعلى الرغم من أنّ الجوع دخل البيوت وأقام فيها لينهش في أجساد الفقراء المنهكة والنحيلة، والعاجزة عن التصدي له وطرده. ومن أنه بدأ يطرق الأبواب في كلّ المناطق ومن كلّ الأطياف والمكونات الشعبية. فإنّ الطبقة السياسية المالية لا تزال تمارس هوايتها في إفقار الشعب وتجويعه وإذلاله. وتحاول التملص من ارتكاباتها ومما اقترفته من فساد وتحاصص ونهب للمال العام والخاص. والأسوأ منه ما غرسته في نفوس البسطاء من اللبنانيين من غرائز طائفية ومذهبية وعنصرية وأحقاد، ومن الولاء لهذا المسؤول أو ذاك ليكونوا طوع أيديهم ويهللوا لهم، بدلاً من الولاء للوطن والدولة والقانون. وقد نجحت تحت الضغط والترهيب والترغيب أن تنزع عنهم صفة المواطنية الصحيحة، وتحويلهم إلى أتباع ومرتهنين ومجرد كتل بشرية لا حول لهم ولا رأي، ويكفي أن تبقى على «دكة» الاحتياط وغب الطلب.
هذه الطبقة التي لا تزال لتاريخه تتناتش على الحقائب الوزارية، وعادت إلى الضوء والتلاعب بمصير الوطن ولقمة عيش المواطن، بعد أن عوّمتها المبادرة الفرنسية، واعترفت بشرعيتها، واعتقدت أن لا بديل عنها لتشكيل الحكومة، فأنقذتها من السقوط المدوّي أو أقله الانكفاء، تحديداً بعد انفجار مرفأ بيروت، ومسؤوليتها الكاملة عن حصوله وتداعياته قتلاً وتدميراً ومصابين بالآلاف ومعوقين ومفقودين، نتيجة سياسة الفساد والمحاصصة والإهمال وحماية الفاسدين والسارقين، على مدى ثلاثة عقود من التسلط والاستبداد والنهب والهدر والصفقات والسمسرات، التي أوصلت البلد الى الانهيار والإفلاس وسلوك طريق الاحتضار.
إن زيارتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمبادرة التي اقترحها شكلت رافعة فعلية لهذه الطبقة وضعتها مجدّداً في واجهة الأحداث والتعويل عليها لتشكيل حكومة المهمات، التي هي بمثابة الفرصة الأخيرة للإنقاذ. وقد أخطأ ماكرون كثيراً بالرهان على الطبقة السياسية، وهي التي رسبت في امتحان المسؤولية وإدارة شؤون البلاد والعباد، وكانت الكلفة باهظة جداً عليهم، من دون ان يجد المواطن اية مأثرة إيجابية صغيرة أو كبيرة تشفع لها أو تشكل لها علامة مضيئة في كلّ تاريخها السياسي.
أخطأ ماكرون في خياره واختياره عندما «أوكل القط باللحمة» وهو اليوم يرقص على أطلال مبادرته، التي بدأت تتلاشى وتصبح من الماضي. ويجهد كثيراً لإنقاذها بالاتصالات والتشاور اليومي مع الطبقة السياسية التي تناور وتتهرّب من المسؤولية لأنها منغمسة كلياً في مصالحها وأجنداتها الداخلية والخارجية، والبيع والشراء الطوائفي والمذهبي. وقد أتاحت المبادرة الفرنسية عن قصد أو من دونه لبعض رموز الفساد تحت عناوين وشعارات فارغة وفضفاضة و»مبولنة» الخروج من عزلتها وقمقمها مستقوية بالخارج الذي يضغط ويهدّد ويعاقب ويحاصر. ما زاد الأمور تعقيداً وعرقلة لتشكيل الحكومة التي تحوّلت إلى بازار في الأسواق المحلية والإقليمية والدولية، من دون أمل أو طائل مرتجى. في حين أنّ الشعب يغرق في عبّارات الموت، ويزداد فقراً وجوعاً ومرضاً بوباء كورونا الذي يفتك فيه. والوطن ينهار تحت الضربات الأميركية بالعقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي والعزل الدولي والعربي، وبالقرارات الدولية المفخخة وما يسمّى بـ «صفقة القرن» و»قانون قيصر»، فيما بعض السياسيين لا همّ عندهم سوى العودة للإمساك بالسلطة أكثر مدة ممكنة.
إنّ المبادرة الفرنسية التي من أولوياتها تشكيل الحكومة، بات واضحاً أنها تعثرت واصطدمت بجدار مصالح الطبقة السياسية، وبالضغوط الأميركية، وهي تراوح مكانها، من دون أن تتقدّم أيّ خطوة لفكفكة العقد أو زحزحة أية بحصة من طريقها، أو حتى تليين مطالب وشروط البعض المتربّص بأيّ حلحلة ممكنة، وقد وجد فرصته للثأر من فشله في غير محطة سياسية عامة وخاصة.
إنّ زيارتي الرئيس الفرنسي للبنان وهذا الكمّ من اتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين، ومع مسؤولين إقليميين ودوليين فاعلين في القرار اللبناني لمؤازرته على تخفيف العناد اللبناني وولادة الحكومة وإخراجها من عنق زجاجة مصالح الطبقة السياسية، ولكنه لم يحصد منها سوى وعود، لأنّ الجميع يبحث عن مصالحه، وعن» مرقد عنزة» له في هذا البلد الذي يختزن في باطن أرضه وفرة من النفط والغاز، ومصالح أخرى، لا تقلّ أهمية عنها.
ما يحصل من مناورات ومماحكات وشروط ومطالب متبادلة على غير صعيد داخلي وإقليمي وخارجي لا يؤشر على الإطلاق إلى أنّ الحكومة باتت على قاب قوسين أو أدنى من الولادة، وهي محاصرة بتمديد المهل أو التريث أو الاعتذار، أو الويل والثبور وعظائم الأمور من الراعية الحنونة فرنسا والتي تهدّد بسحب المبادرة ولن تفعلها. ما يحصل هو لتمرير الوقت ربما إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ليُبنى على نتائجها المقتضى، ولا مشكلة إذا ظلّ لبنان ينزف وشعبه يقتل ويفقر ويجوع، وهو معتاد على الظلم والاستبداد والقهر والذلّ من الطبقة السياسية التي لم تقصّر يوماً طيلة حكمها من هذه الأفعال الشنيعة.
وبالطبع فإنّ هذه الطبقة، لا تقرأ أو أنّ ذاكرتها مثقوبة، أو عقلها متحجّر، أو أنّ اهتماماتها فقط في حماية مصالحها ومكتسباتها وفي تراكم ثرواتها وزيادة أملاكها وهي هوايتها المفضلة، أما الوطن والشعب والدولة والمؤسسات، هي بالنسبة لها «بقرات حلوب» تدر عليها الخير.
ويحضرني، كلام لرئيس بعثة إيرفد الأب لوبرييه، عندما زار لبنان سنة ١٩٦٢ توجه فيه إلى اللبنانيين قائلاً:
«إنّ نظام خدماتكم سوف يستغني عنه جيرانكم، لأنهم سيمتلكون نظاماً أرقى وأحدث، وسيحلّ محلّ مرفأ بيروت، مرفأ حيفا، وستخسرون دوركم الوسيط بين الشرق والغرب، وبالتالي ركيزة اقتصادكم.
إنكم تعيشون في رغد لا يستند إلى قواعد علم الاقتصاد، تعيشون على كمبيالات متبادلة ليس لها أساس، وسيأتي زمن الاستحقاق، فإذا لم تبادروا إلى إصلاح أموركم، ستأتي على بلادكم حرب لا تبقي ولا تذر… فماذا أنتم فاعلون…؟»