سر الاعتراف
عصام الحسيني
الاعتراف القانوني الدولي، هو هدف تسعى اليه معظم الكيانات السياسية الناشئة على بقعة جغرافية محددة، والتي تعتبر نفسها وحدة سياسية قائمة في الواقع، ذات شعب أو أمة أو قومية، لتدخل إلى المجتمع الدولي القانوني بكل تشكلاته، كدولة قانونية فاعلة.
والاعتراف بالكيانات السياسية قديم في التاريخ الإنساني. فقد شهدنا في عصر الإمبراطوريات القديمة، حركة تبادل سفراء بينها، للدلالة على الاعتراف بوجودها السياسي.
وتطوّرت نظرية الاعتراف بالكيانات السياسة، مع ولادة الدولة القومية في أوروبا بعد مؤتمر «وستفاليا»، من اعتراف واقعي أو سياسي، إلى اعتراف قانوني، مع دخول القانون الدولي كضابط إيقاع في العلاقات الدولية، في عالمنا المعاصر.
وأنواع الاعترافات هي:
أ – الاعتراف الواقعي أو السياسي:
هو تصرف ذو طبيعة قانونية غير محددة، مع بعض التحفظات على أوضاع ما، وهو اعتراف يسبق عادة الاعتراف القانوني.
ب – الاعتراف القانوني:
هو اعتراف لا ينطوي على أي تحفظات، باعتبار أنّ الكيان السياسي مكتمل الشروط، التي حدّدها القانون الدولي.
ج – الاعتراف بالدولة:
هو تصرف إرادي لدولة أو عدة دول، بالاعتراف بظهور كيان سياسي مستقلّ على الساحة الدولية، له وصف الدولة، وهو ليس شرطاً لوجود الدولة.
ح – الاعتراف بالحكومة:
هو تصرف إرادي، تعلن بموجبه دولة ما، اعترافها بالهيئة التي استلمت السلطة، خارج الأشكال الدستورية (ثورة، أو انقلاب)، بعد التأكد من أنها تمارس السلطة بصورة فعلية، وقادرة على الوفاء بالتزاماتها الدولية.
إذن، لقد نظم القانون الدولي الألية القانونية، للاعتراف بالكيانات السياسية الناشئة، وبالدول وبالحكومات، بشروط محددة، لا تهدّد السلم والأمن الدوليين، وتساهم في تطور الحياة البشرية.
غير أنّ نموذج الكيان الصهيوني، المغتصب لأرض فلسطين العربية، كان نموذجاً فريداً من نوعه في العالم، حيث تمّ تجاوز الألية القانونية، من حيث الاعتراف الدولي به، بدعم من الدول الاستعمارية الحامية له.
أولاً:
الاعتراف الدولي بكيان العدو الصهيوني:
أ – بتاريخ 29 تشرين الثاني عام 1947، صدر القرار الدولي رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، بناء على توصية بريطانية، وهو قرار مخالف للقانون الدولي، ويمكن الطعن به لعدم شرعيته.
فالدولة المنتدبة، وبناء لما نص عليه القانون الدولي، تسلم البلاد بعد انتهاء فترة انتدابها، حصراً إلى سكانه الأصليين.
ثم أنّ صلاحيات الأمم المتحدة، وكما نص عليه ميثاقها، لا تسمح لها بتقسيم الدول، دون إرادة وموافقة أصحاب الأرض، وتنحصر صلاحياتها في حفظ خرائط حدود الدول.
ب – وبتاريخ 14 أيار عام 1948، أعلن كيان العدو الصهيوني عن استقلاله.
لكن هذا الاستقلال يحتاج أولاً إلى اعتراف دولي، كي تثبت شرعيته الدولية، وهي حاجة وجودية لكيان العدو.
غير أنّ المشكلة التي واجهت هذا الاعتراف، احتلال العدو الصهيوني لأراضي عربية خارج حدود التقسيم، وطرد فلسطينيين من ديارهم، وهو تجاوز لا تقبل به معظم دول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبغية الالتفاف على هذه الإشكالية، قام العدو بتاريخ 12 أيار عام 1948، بالتوقيع في «لوزان» على البروتوكول الذي يقضي: بانسحابهم من الأراضي التي احتلوها خارج حدود التقسيم، والسماح لأهل فلسطين بالعودة إلى ديارهم.
وبالفعل، فقد اقتنعت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأنّ العدو سيلتزم ببنود التسوية كما وردت في البروتوكول، وتمّ قبول كيان العدو الصهيوني في عضوية الأمم المتحدة، بتاريخ 11 أيار عام 1949.
وفي نفس العام، أعلن كيان العدو الصهيوني، عن عزمه عدم تنفيذ ما التزم به في لوزان، وتقدم بمذكرة رسمية للجنة التوفيق الفلسطينية يقول فيها:
«إنّ الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء… وانّ عودة أي لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية هو شيء مستحيل».
وبذلك يكون كيان العدو، قد استحصل على اعتراف دولي لوجوده، من خلال خديعة برتوكول «لوزان»، وهي الخطوة الأولى في طريق الاعترافات الطويلة، والخدع المتعدّدة.
ثانياً:
الاعتراف العربي بكيان العدو:
لأنّ العدو الصهيوني محتلّ لفلسطين العربية، فقد كان الاعتراف العربي به ضرورة لاستقرار محيطه الجيوسياسي، وهي خطوة طويلة زمنياً، وتحتاج إلى خدع متعدّدة.
لذلك يمكن الاعتبار، أنّ معظم الحروب التي خاضها العدو مع الدول العربية المحيطة بكيانه الغاصب، كانت تهدف إلى انتزاع اعتراف عربي به، بدعم غربي غير محدود، في الاقتصاد والسياسة والأمن.
وكانت حرب حزيران عام 1967، واحتلال العدو للجولان السوري، وسيناء العربية المصرية، وما تبقى من فلسطين، هي ورقة التفاوض الخديعة، لما عرف بمعادلة «الأرض مقابل السلام».
وكان القرار رقم 242 الصادر بتاريخ 22 تشرين الثاني عام 1967، قد تعامل مع الشعب الفلسطيني كلاجئين، وهو مخالف لما نص عليه القرار الدولي رقم 181.
وبعد حرب تشرين عام 1973، صدر القرار الدولي رقم 228، والذي أكد على مبادئ القرار الدولي رقم 242، كإطار لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي.
وكان شعار «الأرض مقابل السلام «معادلة مدريد، أو «مدرسة السلام»، الشعار الخديعة الذي أنتج معاهدة «كامب ديفد»، والذي أخرج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وأعطى العدو أول اعتراف عربي رسمي، بشرعية احتلاله لفلسطين.
في الواقع، أنّ معاهدة «كامب ديفد» قد أنهت الصراع العربي «الإسرائيلي»، أو نقلته إلى صراع غير متكافئ في ميزان القوى لزمن طويل، وأبعد عن كيان العدو الخطر العسكري والأمني لأجيال طويلة، مما أعطى للكيان صفة الدولة المستقرة.
وهذا الاعتراف هو ضرورة إقليمية للعدو، بعد نيله الاعتراف الدولي.
وكذلك، كانت معاهدة «كامب ديفيد»، المقدمة لاعترافات عربية متدحرجة، كان لكلّ اعتراف منها، خاصيتها الوظيفية.
ومع الشعار الخديعة «سلام الشجعان»، كانت نكبة فلسطين الثانية مع معاهدات «أوسلو» عام 1989، التي أعطت للعدو اعتراف فلسطيني بشرعية اغتصابه لأرض فلسطين العربية، في الوقت الذي فشلت فيه منظمة التحرير الفلسطينية، في طرح بند حق العودة للتنفيذ، وحسم وضع مدينة القدس القانوني، تنفيذاً لما ورد من قرارات دولية سابقة ذات صلة.
وتأتي معاهدة «وادي عربة« مع الأردن عام 1993، كتتمة لهذا النهج الاعترافي التنازلي، ضمن شعارات خادعة غير واقعية، تلعب على العامل الزمني والمراحل.
ومع معاهدات «كامب ديفيد»، و»أوسلو»، و»وادي عربة»، تكون مرحلة الاعتراف العربي بكيان العدو قد أدّت وظيفتها الأولى في:
أ – منح شرعية عربية لوجود كيان العدو على أرض فلسطين المحتلة، ككيان مستقلّ ذات سيادة.
ب – إنهاء حالة الصراع العربي «الإسرائيلي»، أو إبعاد خطره العسكري والأمني لزمن طويل.
ج – وضع صفة الاستقرار لدولة كيان العدو، وما يتبعه من فترة تطور وازدهار اقتصادي.
ح – الدعاية ليهود العالم، بالالتحاق بأسطورة الدولة التوراتية الموعودة، الحلم الذي تحقق، في كيان قوي مستقرّ، معترف به دولياً وإقليمياً.
ونظرية يهودية الدولة، هو هدف استراتيجي وضعه مؤسّسو المنظمة الصهيونية العالمية، أي إزالة كلّ ما هو غير يهودي من أرض فلسطين، وهي حالة فريدة في العالم في تاريخ الاحتلالات القديمة والحديثة، متدرّجة من:
الاحتلال، إلى الإحلال، إلى التهويد.
كلّ هذه الاعترافات التي تحققت، تعطي لكيان العدو القوة والقدرة والشرعية التي يحتاجها، بفعل معادلة استعمارية دولية.
ويأتي الإعلان الأميركي عن مدينة القدس، كعاصمة للدولة اليهودية، في مسار «مدرسة السلام» من المنظار الأميركي، معطوفة على صفقة القرن» للسلام» بين قيام الدولتين، في شعارات خادعة ليس لها أيّ ارتباط بمفهوم السلام الحقيقي، أو التسوية الحقيقية، لأنها في الواقع أنهت القضية الفلسطينية، وأوضحت بأنّ الصراع في جوهره، ليس صراع حدود، بل هو صراع وجود.
وحاليا، تأتي اعترافات الممالك والإمارات الخليجية القانونية بكيان العدو، في إطار الحاجة الاقتصادية له، حيث ستكون أسواق الخليج التجارية مفتوحة لنشاطه الاقتصادي.
يعتبر كيان العدو، أنّ حربه في الاعتراف بوجوده القانوني، وبتهديده الوجودي، أصبح من التاريخ، وحربه المقبلة هي في:
الاقتصاد، وتأمين مصادر المياه والطاقة.
والخليج العربي، هو أحد انطلاقاته القادمة في عالم الاقتصاد، حيث تركز الأموال وتجمع الثروات، إضافة إلى قدراته الصناعية المتطوّرة، التي تعطيه القدرة على الاستيلاء على الأسواق الخليجية، ذات الاقتصاد الريعي.
لقد تحوّل معظم نظام الرجعية العربية، من حالة العداء لكيان العدو الصهيوني، إلى العداء لعدو جديد هو إيران، بتوجيه من السياسة الأميركية، الحامية والراعية للكيان.
ويمتد هذا العداء، لكلّ حركات المقاومة في سورية ولبنان وفلسطين، وكلّ الوطن العربي، ومحور المقاومة الرافض للاعتراف بكيان العدو، ولكلّ حركات التطبيع المفروضة.
لقد صنفت الولايات المتحدة الأميركية، هذه الحركات المقاومة، الرافضة للاعتراف والتطبيع، بـ «الإرهابية»، وفرضت عليها عقوبات، ومارست بحقها الاغتيال والتصفية، وهو ما جعلها بحق إمبراطورية الإرهاب الدولي.
انه عهد الاعترافات المتدحرجة بكيان العدو الصهيوني:
الاعترافات ذات الطبيعة الوظيفية، تحت شعارات مزيفة، وفي مقدمتها مفردة «السلام»، التي تعتبر في المفهوم الاستعماري، «سر الاعتراف».