حسان دياب… بصمات واضحة وتجربة رائدة في تاريخ لبنان
} أحمد بهجة*
كأنّ رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب قرأ من بكركي في 18 تموز الماضي، ما يحصل في هذه الأيام على صعيد تشكيل الحكومة المرتقبة، والتي لا تزال مجهولة المصير.
قال الرئيس دياب يومها رداً على سؤال صحافي: «لن أستقيل لأنّ البديل لن يكون موجوداً لفترة طويلة وهذه جريمة بحق لبنان واللبنانيين، أما مجلس النواب فهو سيد نفسه وبإمكانه طرح الثقة بالحكومة».
كان هذا قبل الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت، الذي أعقبته تغييرات وتطورات كثيرة أدّت إلى إعلان الرئيس دياب استقالة حكومته في 10 آب الماضي.
الآن وقد أصبحت الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال، لا بدّ من إنصاف هذا الرجل الخلوق والآدمي و»الشغيل»، الذي قارن كثيرون بينه وبين ضمير لبنان الرئيس الدكتور سليم الحص، خاصة أنّ الرئيس الحالي سار على خطى الرئيس الأسبق في عدم طلب أيّ شيء لنفسه، وهذا ما يُبقي المسؤول قوياً كما كان يردّد الرئيس الحص دائماً.
وفي سياق الإنصاف لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرئيس دياب حقق أول إنجازاته حين تمكّن في غضون 33 يوماً من تأليف الحكومة، فيما كان التأليف يأخذ أشهراً طويلة وصلت ذات مرة إلى نحو 11 شهراً. والإنجاز أيضاً هو أنّ التشكيلة الحكومية أتت مصغّرة إلى حدّ ما حيث ضمّت عشرين وزيرة ووزير جدد، وهي أقرب ما تكون إلى حكومة التكنوقراط لأنّ كلّ أعضائها مستقلين وإنْ كانت لهم آراء وصداقات سياسية، وهم جميعاً من أصحاب الاختصاص والخبرة والكفاءة العالية في مجالاتهم. وضمّت التشكيلة للمرة الأولى ستّ نساء بينهنّ للمرة الأولى أيضاً نائبة للرئيس وثلاث وزيرات درزية وكاثوليكية وأرمنية.
في المضمون فإنّ الرئيس دياب يُعدّ من المستقلّين فعلاً. صحيح أنه أتى بدعم من كتل نيابية معيّنة إلا أنه بقي حريصاً على مسافة تحفظ له استقلاليته، ولم يتعاط في ما يُسمّى السياسية التقليدية في لبنان (توظيفات وخدمات ومحاصصات وما إلى ذلك)، إنما حرص على التعاون إلى أبعد حدّ ممكن مع هذه الكتل وأيضاً مع الكتل والنواب الذين لم يسمّوه ولم يمنحوا الحكومة الثقة، وذلك للقيام بما يفرضه عليه موقعه بالتعاون مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب.
وبعدما كنا نرى رئيس الحكومة يعيش في طائرته الخاصة أكثر مما يبقى على الأرض، رأينا كيف أنّ الرئيس دياب يصل الليل بالنهار في العمل، حتى أنه نقل مقرّ سكنه وعائلته إلى السراي الكبير. ولم يحصل في تاريخ لبنان أن اجتمع مجلس الوزراء مرتين في الأسبوع، وكانت الاجتماعات بعيدة كلّ البعد عن المناكفات السياسية، ولم تكن تدخل السياسة إلى الاجتماعات إلا من الباب الوطني العريض حين تدعو الحاجة إلى مواقف وقرارات واضحة وجريئة في مواجهة الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية، أو في ما يتعلق بعودة النازحين السوريين. وكانت الاجتماعات في الأعمّ الأغلب مخصصة للعمل وللنقاش العلمي والتقني للتوصل إلى أفضل القرارات والتوجّهات.
وإذا كان هناك من ينتقد ويقول إنّ الحكومة غرقت في الاجتماعات واللجان، فالسبب واضح وجلي وهو أنّ الدولة مترهّلة تحكمها الفوضى، ونحن بحاجة إلى تجديد كلّ شيء، بدءاً بتحديث القوانين وتطوير أساليب العمل بما يتناسب مع التكنولوجيا المعاصرة، وأيضاً نحتاج إلى خطط وبرامج اقتصادية واجتماعية ومالية تضع لبنان على سكة واضحة وصحيحة من شأنها إخراجه من هذه الأزمات المتراكمة والمعقدة، والتي كان يمكن حلها قبل اليوم لولا الإهمال والتراخي والاستناد إلى سياسات الريع والاستدانة والفوائد العالية التي حالت ولا تزال تحول دون قيام استثمارات خاصة مجدية توفر فرص العمل وتسهم في تحقيق النمو المنشود.
وقد أثمرت الاجتماعات واللجان والعمل الدؤوب إنجازات هامة جداً ليس أقلها قرار التوقف عن سداد سندات اليوروبوندز، والتوجه إلى مفاوضة حامليها لإعادة هيكلة هذا الدين، ليس فقط على إمكان تخفيض الفوائد العالية بل أيضاً على أساس الدين المتأتي أصلاً من فوائد عالية على سندات سابقة.
ولعلّ الإنجاز الأهمّ الذي أنتجته اللجان والاجتماعات المتواصلة يتمثل بالخطة الاقتصادية ذات الرؤية العلمية والمستقبلية، والتي تتناسب مع قدرات الاقتصاد اللبناني ومع حاجات شعبنا التنموية والاجتماعية، والخروج قبل كلّ شيء من شرنقة الاقتصاد الريعي إلى رحاب الاقتصاد الإنتاجي الذي من خلاله تتوفر الحلول العملية لكلّ أزماتنا الموروثة والراهنة.
وليس تفصيلاً أن تلقى هذه الخطة التأييد والإعجاب من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والعديد من المؤسسات والجهات الاقتصادية والمالية على مستوى العالم,
وبالتوازي مع هذه الخطة أعدّت الحكومة مشروع القانون المتعلق بمساعدة العائلات الأكثر فقراً وتخصيص اعتمادات بقيمة 1200 مليار ليرة لدعم قطاعات الاقتصاد الحقيقي لا سيما الصناعة والزراعة، وقد تعرّض هذا المشروع لبعض التأخير في المجلس النيابي لأسباب سياسية معروفة، ثم تمّ إقراره وبدأ العمل به على الفور، حيث تمّت مساعدة عدد كبير من العائلات بمبلغ 400 ألف ليرة، وهو دعم كان يجب أن يستمرّ بدلاً من الآلية الملتبسة التي وضعها مصرف لبنان لدعم السلع الأساسية والتي استفاد منها التجار الكبار أكثر من المواطنين، كما استفاد منها الغني والفقير بنفس المستوى، بينما المطلوب ليس دعم الأغنياء بل الفقراء والذين تأثرت أعمالهم وفقدوا مداخيلهم نتيجة الأزمات المستجدة، من أزمة الدولار والمصارف إلى أزمة كورونا وصولاً إلى الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت…
إذن… لم تكن اللجان والاجتماعات هي الهدف، إنما كانت لتحديد الأهداف ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذه الأهداف، وذلك باعتماد أفضل السبل الإدارية والعلمية، ومن هنا جاءت التعيينات التي تمكّنت الحكومة من إنجازها في زمن قياسي، وأهمّها نواب حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية.
إضافة إلى كلّ ما تقدّم أعطى الرئيس دياب النموذج المثالي في العلاقة التي يجب أن تسود بين الرؤساء وبين المؤسسات، فكانت ولا تزال علاقته برئيس الجمهورية العماد ميشال عون قائمة على أساس الاحترام المتبادل، بعيداً عن المناكفات والحَرَد والاعتكاف الذي كنا نراه في مراحل سابقة، وكذلك هي علاقته مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأيضاً مع مؤسسة المجلس النيابي انسجاماً مع ما نصّ عليه الدستور لجهة توازن السلطات وتعاونها في ما بينها لتحقيق المصلحة الوطنية العليا.
هي تجربة رائدة خاضها الرئيس حسان دياب، وطبع بها مرحلة حساسة جداً في تاريخ لبنان، وسوف تبقى بصماته واضحة وجلية في السراي الحكومية تجعل كلّ من سيأتي بعده يحتاج إلى بذل جهود جبارة لكي يتحمّل هذه المسؤولية الكبرى ولكي يقوم بهذا الحمل الكبير…