الوهم الأميركيّ والرهانات القاتلة
ناصر قنديل
– يقول دبلوماسي فرنسي سابق شارك في رعاية نشوء قوى الرابع عشر من آذار مع الأميركيين عام 2005، أن الزمن الأميركي تغيّر عن الثوابت المعتمدة سابقاً، لصالح أوهام عنوانها المضي بالعناد على التصعيد بلا حساب للتبعات والتداعيات، مستعيداً ثابتتين رافقتا مرحلة 2005 يتم إسقاطهما من الحساب نهائياً هذه المرة، وهما، الأولى، الحرص على تركيز الضغط يومها على سورية بوعي كامل وحذر شديد من أي إيحاء باستهداف حزب الله، وصولاً للعام 2006 والحرص على تظهير التمييز بين التوجّه ضد حزب الله في الحرب التي شنتها «إسرائيل» وتحميل الحزب مسؤوليّتها وتبعاتها ومحاولة تدفيعه ثمنها، وبين السعي لتحييد كل مَن هم حول الحزب من حلفاء وتطمينهم بعدم وجود أي نيات عدائية ضدهم، وخصوصاً ثنائي حركة أمل والتيار الوطني الحر وبشكل أخص رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس التيار آنذاك الرئيس الحالي للجمهورية العماد ميشال عون، والتأكيد على أن الرؤية الغربية للبنان لا تنطلق من رؤية تفضيلية للعلاقة بطائفة على حساب أخرى، وانها تحرص على مراعاة قواعد التوازنات الطائفية الحساسة والدقيقة والمعقدة، والثانية هي التمسك الأميركي بالتزام سياسات في المنطقة تسعى للتمايز عن السياسات الإسرائيليّة والتركيز على تشجيع ما يُسمّى بالاعتدال العربي لتصدر الواجهة السياسية لمقاربة القضية الفلسطينية، وهدف هاتين الثابتتين هو تحييد الشوارع الطائفية اللبنانية عن معارك تواجه الرؤية الغربية وتحبطها، وتحييد الشارعين الفلسطيني والعربي عن مجال عمل السياسات الغربية في المنطقة فتوفر محيطاً مناسباً لنجاح المسعى الغربي في لبنان.
– يقول الدبلوماسي الذي يلعب حالياً دوراً في الملف اللبناني، أن كل شيء تغير في واشنطن، رغم النتائج السلبية التي ترتبت على الربيع العربي. فالحرب على سورية تحت راية دعم مشروع للتغيير السياسي السلمي، انتهت بحصيلة مأساوية بالنسبة للغرب، فقد صارت روسيا وإيران حاضرتان في سورية أكثر من الماضي بأضعاف مضاعفة، و»الثورة السلمية» صارت جماعات إرهابية لا يمكن التستر عليها ولا على طبيعتها، والدولة السورية تخطّت المخاطر، وصارت حقيقة ثابتة لا يمكن إنكارها ولا تجاهلها، والحلف الذي حشدته واشنطن تفكك ودخلت أطرافه في صراعات جانبية طغت على المشتركات، واحتلت واجهة الأحداث، سواء الصراع التركي الخليجي وفي قلبه الصراع القطري السعودي الإماراتي، أو الصراع التركي الأوروبي في ليبيا، وصولاً للتجاذبات القاسية التي تفرضها السياسات التركية شرق المتوسط؛ وفرنسا طرف رئيسي فيها، والحروب التي بدت مضمونة النتائج تتعثر، من حرب سورية إلى حرب اليمن إلى حرب ليبيا، بلا استراتيجية خروج واضحة، ورغم ذلك تنسحب واشنطن من الاتفاق النووي، ومن مشروع سلام أو تسوية يحاكي الشارع العربي، بحد أدنى عنوانه التمايز التقليدي عن «إسرائيل» بالموقف من الاستيطان والقدس ومشروع الدولتين، والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 67، وتأتي المقاربة الأميركيّة في لبنان من موقع مشابه، فلا انتباه لمخاطر الانزلاق إلى قلب صراع تحشد فيه الطائفة الشيعية في مكان، والطائفة السنية في مكان، وتقسيم المسيحيين بين الطائفتين وإضعاف دورهم ومكانتهم، وصولاً للانسداد السياسي الكامل، ولا حذر من إلغاء سياسات التحييد التقليدية، واللجوء إلى القصف العشوائي عبر العقوبات بدلاً من الاستهداف الضيق والمدروس خير مثال.
– يقول الدبلوماسي الفرنسي السابق إن سقوط فرص التسوية في المنطقة بعد صفقة القرن والتماهي الأميركي الإسرائيلي، رفع منسوب التوتر، ولا يُغطي خسائره الحديث عن أرباح التطبيع الخليجي الإسرائيلي، الذي سينقل التوتر نفسه الى الخليج، وبعدما كان دور الخليج تخفيف التوتر في فلسطين والمشرق بمواقف وسطية سيتحوّل هو الى ساحة توتر، بينما توحَّد الفلسطينيون ويستعدون للعودة الى سياسة الثمانينيات والانتفاضة والعمليات المسلحة، وفي لبنان بدلاً من فتح الباب للمبادرة الفرنسية القائمة على مراوح عدة من التحييد، كما كان واضحاً في مندرجات المبادرة، تحييد حزب الله عن مواجهة تسقط فرص النجاح، وتحييد حليفيه الشيعي والمسيحي، والخروج من أي شبهة انزلاق لمواجهات وتوترات طائفيّة، والتركيز على هدف المبادرة وهو منع المزيد من التدهور المالي والسياسي في لبنان، سوف يترتب عليه في حال حدوثه انزلاق المنطقة نحو مواجهة اقتصادية مع منافسين استراتيجيين للغرب، يفرضون ملء الفراغ الذي تركه الغرب في بلد يواجه خطر السقوط الكامل ستصبح معه أي خطوات إنقاذية مقبولة ومطلوبة، وربما انزلاق المنطقة الى توتر اقليمي بين «اسرائيل» وحزب الله، سيفرض عند اندلاعه مقاربة عاجلة لمنع التصعيد بتقديم تنازلات لحزب الله تفرض شرعية جديدة لسلاحه، وحضوراً أقوى له في معادلات السلطة، فأصغى الأميركيون الى المبادرة التي عرضت لهم مفصلة الأهداف والخطوات، لكنهم بدلاً من دعمها الصادق لعبوا معها بالتفاصيل، لإفراغها من مضمونها، فجاءت العقوبات تسدد ضربة خاطئة أصابت المبادرة نفسها ورفعت منسوب التوتر، وجاء التشجيع لسياسات محلية توحي بتصويب المبادرة نحو إنتاج صيغة غالب ومغلوب بين الطائفتين السنية والشيعية، حرصت فرنسا على تفاديها منذ البداية بالتنسيق مع الأميركيين، ودخل لبنان في مخاطر صراع طائفي خطير سيجعل مهمة باريس أشدّ صعوبة وتعقيداً، وفرص الفوز بالنجاح تتراجع.
– يختم الدبلوماسي الفرنسي بالقول، إن باريس لم تقرّر سحب مبادرتها، وهي حكماً لن تتحدث عن مسؤوليات محددة تسببت بإفشالها، وتسعى لتهدئة الثنائي وطمأنته بعدم وجود أي خداع في المبادرة، لكن النقاش يدور حول مدى وجود فرص لنسخة ثانية من المبادرة دون دعم أميركي، في ظل التجربة التي تكاد تنتهي الى الفشل، وفرنسا لا تملك ترف الخيار للمواصلة لأنها تدرك كما عند إطلاق المبادرة أن الفراغ سيعني الفوضى أمنياً، وساحل المتوسط فيه ما يكفي من المتاعب الأوروبية، مع حكم تركي أرعن ومغامر وجاهز لاستغلال الفرص، والخطر المالي في لبنان داهم وسيفرض خيارات بديلة يصعب التراجع عنها، رغم رغبة اللبنانيين بكل طوائفهم وقواهم السياسية بمنح الفرصة الفرنسية إمكانية النجاح، وقناعتهم بأن الغرب والعرب هما الخيار الاقتصادي المفضل للبنان، لكن بشرط مد حبل النجاة لهم كما فعلت المبادرة. ويعطي الدبلوماسي الفرنسي نموذجاً عن كيفية التصرف الأميركي مع الفشل، بكلام وزير الخارجية الأميركية بعد الفشل بتجديد الحظر على السلاح على إيران، وسقوط أكثر من محاولة أميركية في مجلس الأمن، فيخرج وزير الخارجية مايك بومبيو ويقول إن الحظر الأممي تجدد تلقائياً وهو يعلم أن هذا لم يحدث بل حدث عكسه، ويضيف أن حكومته ستتصرف على هذا الأساس بدلاً من المنظمات الأممية إذا أخفقت بذلك، ورغم هذا الإنكار وهذه المكابرة، لا تجد فرنسا بديلاً عن العودة للتحدث مع الأميركيين على أمل الحصول على مزيد من فرص التحرك المشترك.