مقاربة المرأة الأحجية في ديوان «ومضة» للشاعر الراحل أمين الذيب
} إلهام بوصفارة مسيوغة
هذا الديوان المتكوّن من 272 ومضة غير معنونة عنونة صريحة وموزّعة بمعدّل ومضتين في كلّ صفحة، هو مشروع إبداعيّ اختطّه الشاعر الراحل ويمكن إدراجه ضمن الرومانسية الوجودية إن جاز التعبير إذ يبتعد في الدلالة، ويغوص في الأعماق لاكتناه الحقيقة، ممّا جعله متمرّداً، يستدرج الأشياء والأحياء ليخضعها لرؤيته، ويقتنص اللحظة المناسبة لمعانقة الوجود والكشف عن حقيقة الكون مثلما أشار إلى ذلك أمين الذيب في آخر ديوانه: «في ذروة الكون نتسوّل المعرفة لذاتها» (ص. 137).
سأثير ثلاث نقاط في هذه المقاربة:
العنوان;
لماذا ومضة وليست ومضات؟ لماذا لم يتخيّر له عنواناً لصيقاً بمضمون الديوان أو لنقل جامعاً شاملاً لمعانيه كما هو مألوف؟ وهل يصلح أن يكون الشكل الشعري «ومضة» عنواناً؟
ثم ما الكون الشعري عند أمين الذيب وما هي أهمّ عناصره في هذا الديوان؟ وهل توفّرت فيه شروط الوميض كشرط الاقتصاد اللّغويّ (لا تقلّ الومضة عن ثلاث كلمات ولا تزيد عن إحدى وعشرين كلمة) وشرط التكثيف المولّد للغموض وقوّة الصورة الشعرية بفضل الاتّساع الدّاخلي للّغة وطاقة المفردة وشرط الإيقاع الداخلي وشرط الإدهاش الناتج عن المفارقة أم توجد نصوص لا تستجيب لخاصّيات الومضة؟
معضلة التجديد التي ذكرها الذيب في مقدّمة ديوانه. يقول: فمعضلة التجديد في أدبنا ما زالت قائمة، فما هي رؤية أمين الذيب التجديدية وإلى أيّ مدى كان الذيب مجدّداً في هذا الديوان؟ هل التجديد إحياء للتراث الأدبي العربي أم قطع تامّ معه واقتباس من الغرب أم هو بين هذا وذاك يؤسّس لهويّة تجاوزيّة للاثنين؟
كما أن عتبة العنوان هي علامة أو إشارة سيمولوجية تؤدي وظائف معيّنة ربّما أبرزها تزويد المتلقي بعناصر دلالية تدفعه إلى القراءة أولاً وتعينه في الكشف عن الدلالات العميقة للملفوظ الإبداعي، إضافة الى وظيفته كعنصر إثارة يقود القارئ أو المتلقي لعبور أسوار النص وسبر أغواره. لكنّ هذا الديوان بدا في الظاهر من دون عناوين لا كبرى ولا صغرى، لا خارجية ولا داخلية. فهل يصلح أن يكون «ومضة» عنواناً للديوان؟ نعرف جميعاً أنّ الومضة هي شكل شعري جديد وحديث يحاول مجاراة العصر الحديث، فهي أشبه باسم الجنس الذي تنضوي تحته كلّ الأنواع. والومضة مصطلح شامل عامّ يجمع تحته دواوين كثيرة في هذا النوع من الكتابة الشعريّة. وهذه الدواوين تجتمع في حقيقة واحدة كونها جميعاً من جنس الومضة. إذن «ومضة» ليس عنواناً واسماً لديوان أمين الذيب بل يصلح لكلّ الدواوين الشعرية في هذا النوع من الكتابة. تساؤل ملحّ لماذا هذا العنوان العامّ العائم؟ هل ضاقت بالشاعر العناوين ومشاريع التسمية؟ لا أظنّ ذلك عجزاً أو ضيقاً أو تعجّلاً بل قصداً. فما قصده؟
لو حِدنا عن معنى هذه الكلمة في سياقها الأدبي الأجناسي ونظرنا في معناها المعجمي قد نعثر على ما يرضينا. ومضة اسم مرّة من ومض. نقول ومض البرق أي لمع لمعاً خفيّاً وأومض له بعينه أي أومأ. وومضة النبوغ أي التماعته وظهوره المفاجئ والعابر وقد يصادف هذا معنى الخاطر وكيفية حصول الإلهام والوحي في العملية الإبداعيّة.
هذا من جانب ومن جانب آخر في قاموس المعاني والأسماء ومضة اسم علم مؤنث عربي الأصل في معنى اللّمعة الخفيفة الواحدة، الغمزة، البسمة والإشارة الخفيّة. يا الله إن كان هذا ما يقصده الشاعر بعنوان ديوانه. هل تكون ومضة تلك المرأة الغجريّة المرتسمة في غضون هذا الديوان؟
وفي مجال الطبيعة والفيزياء هي وهج من الضوء منتَج في مادّة فسفورية عن طريق امتصاص فوتون أو ذرّة متأيّنة ionizé (أي مشحونة كهربائيّاً) يعني ومضة هي تألّق ينشأ عن امتصاص الإشعاعات ويستمرّ مدّة بعد انقطاعها. فهل يمكن أن تكون ومضة هي ذاك التألّق الناشئ من امتصاص شعاع كلّ ومضة من ومضات الديوان وقد أشار الشاعر إلى هذا المنحى في آخر ديوانه فيقول: «غير مستقر كإشعاع كلّما ارتبك خطوي يبتكر الضوء مساراً لستُ مُحايداً رغم سكوني».
ثمّ لماذا عنونه بومضة في صيغة المفرد والحال أنّ الديوان يجمع 272 ومضة؟ إن تأوّلنا ذلك فقد تكون كلّ ومضة هي هباءة أو شعاع أو ذرّة صغيرة متأيّنة مبعثرة في الجوّ أو الماء أو الأرض. لكنّها إذا اجتمعت والتحمت شكّلت ألقاً واحداً وومضة شعرية مكثّفة أو وهجاً وبريقاً خفيفاً لامعاً على نحو مكوّنات الذرة: نواة موجبة والكترونات سالبة سابحة حولها منجذبة إليها وهذه النواة هي التي تمتصّ الإشعاعات الصغرى لتنشئ وهجاً من الضوء. قد يكون هذا هو حال ومضات أمين الذيب. ومضات تبدو سابحة في البياض، مبعثرة ومتناثرة مشعّة لكن جلّها منشدّة إلى بعضها البعض تشكّل معاً ومضة واحدة مكثّفة تختزل الكون الشعريّ لأمين الذيب.
وقد ذكرت كلمة ومضة في الديوان في الصفحتين: ص 15 «أبصرتكِ هناك أبعد من رؤاي بومضة» وص16 «هناك.. بعد الأفق مسافة بين وعيين وومضة» ففي السياق الأول هي وحدة قيس نحدّد بها المدى المكاني والزماني بين نقطتين وهو بُعدٌ ضئيل أو قليل بين المرأة ورؤيا الشاعر. أمّا في السياق الثاني فمعناها طريف إذ تشكّل وعياً ثالثاً مختلفاً عن الوعيين المألوفين قد يكونان العربي والغربي، بل هي معيار التجديد نقيس بها درجة الوعي وبلوغ النضج.
حقّاً البحث في العنوان وحده متاهة لذيذة يخلقها القارئ قبل أن يقصدها الكاتب. وليست اللّذة في الوقوف عند اليقين ومقصد الشاعر بل هذا آخر همّ المتلقّي وإنّما هي مجرّد تعلّة لولوج بوابة التأويل وتحقيق لذّة النصّ « le plaisir du texte» عند رولان بارت.
المكوّن الشعريّ: ليس عسيراً على قارئ الديوان أن يلاحظ هيمنة أربعة عناصر على الديوان تكرّر حضورها وبدت عناصر أساسيّة شكّلت الكون الشعريّ للذيب. وهي الماء والمرأة والشاعر والله: واللغة جهراً وصمتاً بساط يحتضن هذه العناصر الأربعة بل هي رؤى حبلى بالرغبات ودروب لبلوغ المعنى. فلنتبيّن وجوه حضور هذه العناصر وخاصيّاتها المبعثرة في العالم الشعري لأمين الذيب، سنجمع تلك الشظايا المشعّة لبلورة رؤية الشاعر الكونيّة.
عنصر الماء: للماء وجوه عديدة يحضر صراحة أو كناية بمنابعه: مطر، بحر، موج، نهر، بحيرة، أودية، رذاذ، دمع، غيمة… وسماته مختلفة من ومضة إلى أخرى: فهو نقيّ، كسيح، الماء امرأة مبعثرة، عصيّ، الماء خطيئة الجسد، الماء كراقصة مبتدنة..
البحر: عاقر، يرقد، شطآنه أذرع منتظرة، يتهافت كامرأة، شاهد على رؤى الانزياح، لا ملح في البحر، له هدب، كفّا امرأة، البحر امرأة نسيت بوحها، صار خابية نبيذ، ساكن، ماؤه حصين، مهدور، منشغل، ماجن، يحاذي سماء ضالّة، حيناً هو مدى لا ينتهي، حيناً هو ساقية ضحلة..
الغيوم: لا ملح فيها، تلمّح بالارتحال، تحتشد في الثرثرة والانزياح، سرّ الماء، مياه مهاجرة، خاطرة ماء، هاربة من سطوة السماء، بعثرتها الريح،
فرغم قلّة اللّفظ ديوان شديد الخصوبة والانسياب حيث الماء يتحيّفه من كلّ جهة. وقد كسر الشاعر صورة الماء المألوفة في الشعر العربي إذ بات الماء يشبه المرأة لا العكس. والماء خطيئة أي رذيلة فلم يعد رمز الخير والبركة.
– عنصر المرأة: مخصوصة في هذا الديوان وموجودة غياباً وحضوراً، معرفة ونكرة، مشبّهاً ومشبّهاً بها، لكنّها ليست المرأة النمطية المثال في الشعر العربي أوالغربيّ. فهي ليست دماً ولحماً وليست رمزاً مؤلّها وليست آلهة الخصوبة ولا الشمس بل وردت امرأة غريبة ملغزة بل امرأة أحجية. لأحدّثكم قليلاً عن امرأة الذيب وهي في بداية الديوان امرأة نكرة عجوز تحوّلت إلى أميرة آشورية محبوسة، ترسم قمحاً، يشتهيها بيكاسو، تنتظر الشاعر، ترسم وحيها، حافية، تراقص الشاعر، تبتهل، تتأنّق كمرور شمس، هي نهر من دون ضفاف، عارية، حائرة، لها ستّ جهات، جسدها أرض، تنتظر وحي عاشق، تستطلع الماء، صمتها شهيّ، أنثى، كأنّها نبوءة، حورية في حلم الأغبياء، ماؤها لا ينبت الشجر، لا تضطجع في السرائر، تغسل وحيها بالخمر، تستريح في خمّارات اللّيل، تلتحف مقاهي الأرصفة في النهار، تدفع ثمن قهوتها، تمسك النهار وترمي به في البحر، حبلى بالأساطير، امرأة قصيّة تتزيّن، تستعذب الشهوة، عارية القدمين، تزرع خطوها في الريح، تنقد رؤى الشاعر، ساكنة على غيمة، ترتّب مناديلها، امرأة شقيّة، تتمايل، تحتمل الانبعاث، تقطف الكون، توضّيه في شغف، غجرية نائمة في الصمت، امرأة أحجية من طين، معناها مندثر في المياه العميقة.. فعلاً أيها الشاعر العميق امرأتك هذه صنعتْها أعماقك ولا تخصّ غيرك. وهنا تكمن الهويّة التجاوزيّة للأدب الوجيز.
وغالباً، ما يربط الشاعر بين المرأة والرؤيا وقد يذكّرنا هذا بامرأة جبران لكنّ امرأة الذيب تتجاوزها يقول «كيف تستقيم الرؤيا في جسد امرأة حائرة» إذ تنبعث منها امرأة أخرى جديدة يقول لها شاعرنا: «خبّأتُكِ في فضاءاتي العميقة رشوتُ بكِ روحي كي تستفيض في أمكنةٍ لا مرئيّة» فهي قوّته وروحه ووحيه. ومنزلتها عنده موضع حيرة وتساؤل حين يقول لها: «كأنّك قوّتي أسعى إليك كدهشة ناسك بالتجلّي» فهذه المرأة الأحجية قد تكون وهماً أو طيفاً فهل يصادفها أن تسمّى ومضة؟
– عنصر الإله: على غرار المرأة لا تملك الذات الإلهيّة الخاصّيات المألوفة في الأدب العربيّ أو حتّى في الأدب الوجودي الغربي. فالطريق إليه وعرة، إله سائل، يبحث عن لون هارب، الإله محايد، قصيّ، تخوم الله مدى الخيال، الله دائري، التراويح إنشاد الغيب، الشياطين والملائكة على وفاق، للآلهة سلالات، الآلهة تجوع، تنام على خديعة التكوين، كادت يد الشاعر تلمسه، ماتت الآلهة، لم يع الله أشجانه، خطيئة الله تغيب مع الشمس.. فهذه الذات لم يُحِطْها الشاعر بهالة من التقديس ولم يعاملها بإلحاد. بل بدت كينونة منغلقة تعاني على غرار البشر، تعاني من الجوع والخديعة والسؤال والخطيئة والعجز والحيرة. فرفع عنها الحرج ولم يحمّلها ذنب أشجانه.
– عنصر الشاعر: الذات الشاعرة هي بؤرة الديوان ولها تجلّياتها ومعيّناتها déictiques من خلال الضمائر والأفعال والأسماء. وهذه الذات سعينا إلى رؤيتها وتتبّع حالاتها الشعرية. لذلك حظيت بملاحقتنا لها على امتداد الديوان. لكن سؤالاً عابراً يلحّ علينا: هذا الأنا ضمير محيّر. هل فيه يعيّن أمين الذيب ذاته أم أنّ «الأنا» شكل فارغ على قول بنفنيست ويمكن لكلّ قارئ أن يملأ فيه ذاته؟ ومهما يكن من أمر فهذه الذات أيضاً غريبة الأطوار تختلف عن كلّ الأنوات الشعريّة المألوفة. والاختلاف يكمن في التفاصيل. لنتتبّع هذا الشاعر كيف بدأ وإلى أين انتهى وقد مرّ في مسيرته الوجوديّة بثلاثة أطوار:
الطور 1:
فهو تائه لا مصابيح ترشده، يرسم نهراً، ينتظر الماء والعصافير وامرأة، يجذبه الله، ينشد للمرأة لتنبعث، يرسم الحروف، يصمت كي لا يُجفل العصافير، يجلد الوقت، أحلامه مؤجّلة يرسمها على كتف امرأة، نبضه هارب، قهوته باردة، يرسم شراعاً على ورق وعلى جذع شجرة، ينتظر الريح، ينتظر قصيدة، لا أصابع له، يراقص أفعى كبوذيّ، ترهقه شهوة الصباح، يتفقّد ذاكرته، خرج كقافية مهزومة، لحزنه مذاق الخزامى، يتعرّى كشجرة صفصاف، يقيم الصلاة، يحصي المسافات، غجريّ يرصف الوقت، ينتظر شمساً ليستعيد ظلّه، لم تكتمل دروعه، ينتظر البحر، يرسم جسد امرأة متهيّئة للعشق، يرسم على مناديل الريح، يستفيض كلّما مرّت المرأة بباله، حزين يسأل الباعة والسكارى عن وعاء لحزنه، يرسم على جدار الوقت طيف امرأة، ماؤه بين كفّيها قتيل، يحمل غابة نبيذ خلف ظهره، يتلعثم أمام تعاليم اللّه، يريد أن يخرج من ثيابه ويصفع الكون، يُعدّ النجوم، أدمن العراء، لا أجنحة لجسده، له مدفأة ونبيذ.
الطور 2 :
تعب من أناه، يبحث عن نقطة الابتداء، على شفا الكأس الأخير، نسي تراتيله، هائم كنزوة غجر، يبحث عن بقيّة نبيّ، اجتاز الباب السابع، يرتشد بالموت، جسده مهووس بالبقاء، نفد كأسه الأخير، تراوده أحلام اليقظة، دفاتره طين وصلصال، يداه قاصرتان، دربه متاهات مرصودة بالغيب، خبزه لم يعد شهيّاً، ترجّل عن النّبيذ، ذوى كفراشة، نضب الماء في دمه، آخر الطريق سؤال.
الطور 3:
امرأته ما زالت نائمة، يُحصي سلالات الآلهة، كسر أسطورة التراتيل، بنى كوخاً لحلمه، ما زال يسعى للهوى، شغفه غجريّ، قلبه صغير غجريّ، الحنين إلى البارحة، يلوذ بالفرار كفراشة، سيبقى متأنّقاً حتّى الموت الأخير، يتحرّر، ينخطف كسنونوة، يخشى البحر، كأنّه أوراق خريف، مدّ يديه ليقطف الشمس، هو ظلّ الكون الهارب من اليقين، يستنبط لغة جديدة للكون، يقف على نبض اللّغة، يسترشد أنين رمل، لا رمل كافياً لقصيدة، ينتظر على حافة شمس مارقة، مات عارياً، السكينة، الصقيع، انعدام الدهشة، تدوين سخافاته كشاهدة على موته، حلول كونيّ للموت، ظلّ طريق البحر، يستظلّ السماء، بوابات العبور مقفلة، يتهافت في متاهات الكون، الأفول، ثقيل معنى الموت، ثقيل عبور الكون من دون امتلاء.
إذن هذه المعاناة الوجودية الرومنسية انتهت بالشاعر إلى الموت في الطور الثالث. وتبدو فكرة الموت وحبّ البقاء والخلود مستبدّة بالشاعر ولا سيّما في آخر الديوان إذ يقول «بَعدي لا ثوب ينتظر الريح تموت نكهة الامتلاء لن يجدي انتظار صوتي القبيح على الهاتف» (كم أفتقد صوتك أيّها الراحل الأنيق!).
فهذه هي العناصر الأساسيّة الكبرى التي تشكّل الكون الشعري للذيب. لكنّ هذا لا ينفي وجود عناصر أخرى فرعية لها دلالات رمزيّة هامّة تؤثّث عالم الشاعر وتكشف عن رؤيته الخاصة للأشياء وللكون على نحو:
الكون: حدقة مجذومة، له لغة، له رذاذ، نافذة الكون امرأة تعجن الوقت، قصاصات أحلام، يكتمل بقبلة، هرم، متجدّد معناه، واسع يشتهي وحياً، درب الكون قصيّ.
اللغة: لها فوارق، لغة صامتة، لها عسس، تخذل، يبعثرها الغياب، تنسج كينونتها، صمتها ستارة الكلام، للّغة مسامّ، مجرّد وسيلة، باغية تتعرّى، عاقر، بين ضدّين.
العصافير: تأكل الماضي وتموت، تنشد نشيداً سرياليّاً، تنشد الصباحات، تنقر شهوة الزيتون، تنقد الشجر في وليمة الصباح، تنقر طعام الشاعر وتطير.
المعنى: لم يكن ناقصاً، يتبدّل، افتراق، كروم دون فزّاعة طيور، أدهى من الكلام، حورية كلّما فضضت بكارتها تلتئم، رحب، لا يمتثل كامرأة معرّضة عن حبيبها، يتوه، ثقيل معنى الموت.
الأفكار: امرأة لعوب، ينقدها اليمام، سبايا الشاعر.
الوقت/ الزمن: وحده ينوء، الزمن انزياح، استعمال مغاير للّغة.
الأمكنة: قصيّة، بئر حثيثة، قاعات عبور إلى اللّاشيء، تمتزج كأنّها حكايات مبعثرة، لا مرئيّة.
السماء/ الفضاء: عيون الفقراء، تمطر، تورق، بحر هارب من لهفة الشاعر، لا تمطر، ساحة لهو خلفيّة.
الأرصفة: لا تكترث، لها مقاهٍ، لا تتّسع للمتأمّلين، جروح الذاكرة.
المدينة/ العاصمة: لها أذرع، امرأة تستحمّ، لا محطّة قطار فيها، تتبرّج.
الريح: لا أوعية لها، لها معنى حميم، باحت بشغفها لماءٍ، تعبث بجدائل الصحراء، جياد الريح جائعة، التباس في مساراتها.
الشمس: ضوء باهت، تستدرجها غواية الفجر، لا رؤيا لها، قصيّة، لها تراتيل، امرأة متوهّجة، تبتكر ظلّ الشاعر، سارقة غاربة ترشو للموت الأنيق، تحضن قمراً، مارقة.
النجوم: توشك أن تتعرّى، لها غمّازات، تومض بالعشق، عالقة في شغف الشاعر.
القمر: واقع في بحيرة، انتقاص للرؤيا.
الشجرة: التفاح، تميل نحو الشمس، لا تدرك معناها، تنمو، شجرة ليمون.
الفراشات: لا تدرك احتراقها، مطمئنّة لورودها.
الضفة: عكّازة، موطأ قدم، مقتولة.
النبيذ: نضب.
الجياد والخيل: ماتت.
مكوّن شعريّ إنسانيّ خصيب ثريّ عميق يشي بثقافة الشاعر وفكره الفلسفي الوجودي. وفي هذا العالم لا بدّ من الوقوف عند لعبة الضمائر:
ضمير «نحن»: يعود على الشاعر والمرأة. ونتبيّن من خلال هذه الأقوال رؤيته للحبّ «كنّا نتقاسم اللّغة على عشب ناعم» «وحدها الشوارع تزيل آثارنا» والحبّ وصفة وهمية للخلود». «الحبّ دورة قمرية قاصرة». «بيني وبينكِ كلام يستطلع معناه» «آخر الوجد ابتداء آخر الكلام امرأة باذخة آخر النبيذ بداية الكروم ارتعاشكِ اتصال بالسرمديّة».
ضمير «هم»: نستشفّ منه رؤية الشاعر الدونية للآخر «كأنّهم رتل زناة في صلاة فضيلة» أو «رجال سقطوا من لهفة النّساء»، «الآخرون لغة عمياء» «خريفهم لن يعرّيك» «الآخرون لهم المنابر والأقاصيص».
ضمير «أنتَ»: وهو الأهمّ إذ تراوح أسلوب الشاعر بين الخبر والإنشاء أمراً ونهياً ونداء. والخطاب المباشر شمل المذكر والمؤنث المفرد. تأمّلوا معي هذه الأفعال المباشرة التي أفادت معنى الدعوة والحثّ والنصح والإرشاد والتوعية بأنّه حقل اختبار يشبه فأراً أبيض. لذلك دعاه إلى الخروج من هذا الحقل: اخلع، تحرّر، لا ترسم طريقك، ثبّت جنونك، اندثر، مدّ يديك، تقدّم، انزع أثقال المارّة، تأنّق كمسافر شغوف، تهافت، ارتو، تزوّد، ابتكر، اذهب قصيّاً، فضّ بكارة الكلام كعاشق غجريّ، اجعلي خطوكِ وئيداً، لا تقتربي من البهو، ضع في حقيبتك، استعر ذيل لغة يقيك التأويل، ابتر قدميك، مدّ روحك، مدّ يدك، استطلع بقاياك، ردّد أناشيد البلوغ، تبدّد، اقطع رأسك بيديك، مدّي يديكِ، مدّ كلتا يديك، استعد دمك المنهوب، تكاتف بذاتك، شدّ رؤاك إليك، انزع عنك الأساطير وتقدّم، استعد هفواتك، ماؤك لك وحدك، استدر، أوهم ظلّك بالخلود، لا تعد أدراجك، بدّل قمصانك كي تنجز موتاً أنيقاً. فلم يغفل الشاعر رغم حزنه واقتراب موته عن وظيفته ورسالته المنوطة به. فهو يريد بهذا الآخر خيراً ويدفعه دفعاً نحو دروب الامتلاء والحرّية والكرامة والفعل الوجوديّ الذاتي.
معضلة التجديد:
كتابة الومضة تذكّرنا بشروط الكتابة القديمة: الكتابة البليغة الموجزة. وديوان ومضة ليس منبتّا عن التراث كما يدّعي البعض. فليس التجديد قطعاً مع الماضي كما تعتبره الأفهام البسيطة وليس أيضاً إحياء للماضي وابتكارا في إطار القديم. وتلك هي معضلة التجديد التي أشار إليها شاعرنا الفقيد بل هو تجديد يولد من رحم التراث ثم ينعتق ليؤسّس هويّة تجاوزية كما أثبتها الأستاذ أمين الذيب في مقدّمة ديوانه: «نحن نعتقد، أن اللحظة الحاسمة، والمُكتنزة بحضارات امتدت منذ العصور السومريّة والأكاديّة والآشوريّة والبابليّة الى يومنا هذا، تُتيحُ لنا بناء فكرنا النقديّ الفلسفيّ، كمقدّمة لتأسيس مذهب أدبي يُعبّر عن روحيتنا وشخصيتنا المجتمعيّة».
والنص التجاوزي بهذا المفهوم هو النص الذي يوفّر للقارئ نسيجاً من التناص. فبنى صوره الشعرية بذاكرة نصّيّة معوّلاً على ما يمتلكه القارئ من الكفاءة ومن الثقافة لتفكيك هذا التناصّ. مثلا في قوله: «جسد المرأة أرض» نعثر على أثر لشعر درويش «خديجة أنا الأرض والأرض أنت». وفي هذا السياق التناصيّ تتجلّى ذاكرة أمين الذيب النصّيّة «mémoire textuelle d’écrivain» ويسمّي مانغينو السياق الأجناسي بالمكتبة الخيالية. والشاعر المثقف صاحب الذاكرة النصّية تتجلّى ثقافته حسب مانغينيو وأروكيوني من خلال السياق التناصي أو الأجناسي الذي يكشف عن طرائق الكاتب في تصريف ذاكرته النصيّة. وقد لا يعترف الأثر الأدبي بانتمائه إلى موقع أجناسيّ سابق.
فالذيب صبّ جام إبداعه في هذا الديوان الأخير وكأنّ إلهاماً وجودياً أوحى له بأن رحلته توشك على الانتهاء وعليه أن يغتنم ما تبقّى له من الوقت ويضع عصارة إلهامه في هذا البياض. حبّر كلمات ذرّية كلّ كلمة من الديوان تكاد تنفجر في رأس القارئ معاني متشظّية تسيل الأقلام.
والإهداء أثار عجبي وإعجابي. فقد أهدى تجربته الشعرية الفلسفية الوجوديّة إلى العالم العربي والعالم بأسره. أجل ما هذه الإنسانية العظيمة أيها الشاعر الوجودي الفذّ؟ إهداء بمثابة رسالة أخيرة تؤكّد الحالة الشعورية للراحل أمين الذيب وهو ينشئ هذا الديوان. شعور رجل يوشك على الرحيل البعيد «أنا أُفُقٌ من أرجوان على شفا الكأس الأخير»، شعور مبدع يغادر هذا الكون الذي أرّقه وهذا العالم الذي لا يكاد يشعر به وبنا فأهدى تجربته التجديدية إلى العالم العربي بمشرقه ومغربه. فلو عرف قومه قدره لصنّفوه من عظماء الإنسانية. هذا الذي يقول: «تعبتُ من كوني أنا.. آخر الدروب كأوّلها الله دائري وأنا أبحث عن نقطة الابتداء». فأيّ فرق بين فلسفة الذيب الوجودية وبين الفلاسفة الوجوديّين الغربيّين الذين بحثوا عن فكر أو تيّار يعيد للإنسان قيمته فنشروا أفكارهم عبر المسرح والأدب والشعر. فقط هؤلاء وجدوا أقواماً عظّمتهم فاشتهروا.
ختاماً، حاولت الوقوف عند أطول ومضة وأكثرها التحاماً بذات الشاعر وخصصتها ببعض التأويل: (ص. 62)
لم يعُد خبزي شهياً
العصافير تنقر خواء الوقت
أترجّل عن شهوة النبيذ وأذوي كفراشة قبل الاحتراق.
هذه ومضة تصوّر حالة من اليأس والقنوط وفقدان الشهية والشهوة مع خواء الوقت والاحتراق. كلّها عناصر تتظافر لتشكل حالة شعورية قاتمة عابرة قد تقصر وقد تطول تذكّرنا بأبناء الكآبة لدى جبران. والتشكيل الفني في هذه الومضة زاخر بالمجاز والتعبير الاستعاري المصور ففقدان شهوة النبيذ كالترجل عن صهوة الجواد وبين النبيذ والجواد تتجلّى معالم الفروسية وقيم الفتى العربي من كرم وسماحة وتعفّف وشجاعة وإقدام وشرف ومجد. فأين نحن من هذه القيم اليوم؟ كلّها ذوت وخبت واحترقت في زمن اللاقيم وانحلال الأمم. وضع الاحتراق لا يخلو من بعث وأمل فلعلّه تنتفض من الرماد كينونة أخرى تشاكل طائر الفينيق.
وُفّق الأستاذ الشاعر أمين الذيب الحاضر الغائب في تجسيد الحداثة في هذه الومضات الشعرية. فكان ديوانه جامعاً لشروط الومضة: قصر وتكثيف وإدهاش واتّساع فترتعش أوتار القارئ أمام هذا النص الإبداعي التجاوزي البليغ الذي بلغ فيه الشاعر مقصده الوجودي فتمكّن من استمالة غيره من دون أن يطيل حتّى لا يملّه القارئون. رحل هذا الشاعر الوجودي منتصراً تاركاً خلفاً صالحاً يسير على خطوه وديواناً جامعاً شاملاً مؤسّساً لنظرة جديدة للعالم «الذي يكاد لا يشعر بنا» لكنّه ضرب على قفاه بختمه وغرس وتداً قويّاً في خيمة التجديد.