أولى

الحراك المدنيّ وأوهام التطوّر خارج التحرّر

 د. موفق محادين

أياً كانت الخلفية والنيات، صادقة ام مشبوهة، التي تقف خلف الشعارات التي تطالب بالتنمية والتطور بعيداً عن المعضلات والقضايا الوطنية، أو بتحييدها، ومنها شعارات الحراك المدني في لبنان والعراق وغيرهما، فقد أظهرت التجارب في الحالة العربية بؤس هذه المقاربات وعقمها.

ويشار هنا، الى ان أول من توهّم بإمكانية التطور والتنمية جنوبا في الإطار الرأسمالي، كان كارل ماركس قبل أن يغيّر موقفه تماماً، فبعد كتاباته حول الدور التمديني للاستعمار في المناطق الراكدة الناجمة عن الإقطاع الشرقي ومنه الإقطاع العثماني، وخاصة في الجزائر والهند تبيّن له انما قاله عن الدور المزدوج للاستعمار الاوروبي (التمدين من جهة والنهب من جهة ثانية) ليس دقيقاً، وان النهب مع الإفقار والتخلف هو جوهر هذا الاستعمار.

هذا على الصعيد النظري، اما على الصعيد العملي في ما يخصنا، فأمامنا التجارب التالية:

1 ـ في القرن التاسع عشر، مرّ جنوب وشرق العالم بتجربتين، الاولى في النصف الاول من هذا القرن، وهي تجربة محمد علي في مصر مستفيداً من ازدهار تجارة القطن، اذ انخرط في مشروع تحديثي برجوازي كبير، استدعى موضوعياً استكمال القوس المصري الشامي، كما استدعى تحديث الجيش للتخلص من المماليك وبناء جيش جديد من أبناء الريف والفلاحين.

وعندما استشعر استعصاء الدولة العثمانية الإقطاعية على بواكير الإصلاح الإداري، الدستوري لاحقاً، قدّم نفسه لأوروبا كحليف وموديل لبناء شرق رأسمالي على غرار أوروبا الرأسمالية نفسها، لكن المتروبولات والمراكز الأوروبية، وجدت فيه خطراً على مصالحها وليس حليفاً او شريكاّ، فوضعت حداً له وردته بالقوة عن اسوار الدولة العثمانية في إسطنبول وأخرجته من سورية، وحشرته في مصر تحت وصايتها، من دون أن تسمح له باستكمال مشاريع التطوير الرأسمالية.

اما التجربة الثانية، التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر فهي تجربة اليابان، حيث اخذت أوروبا والولايات المتحدة قراراً بدعم تحوّل اليابان نحو الرأسمالية وبناء موديل رأسمالي فيها على غرار الشمال الصناعي، كما ساعدت العائلة الحاكمة على التخلص من الساموراي باعتبارهم رمزاً لليابان القديمة، وهو ما أظهرته السينما في أكثر من فيلم، مثل الساموراي الأخير لتوم كروز.

هكذا منعت الرأسمالية العرب بزعامة محمد علي من بناء قوس مصريشامي رأسمالي، فيما دعمت اليابان وغيرها، والسبب يعود الى ميراث الصراع على الشرق والجيوبوليتيك الذي يحيط بالهلال المتوسط الذي يجب ان يخضع مباشرة لأوروبا الرأسمالية.

بل إن حجز التطور المذكور هو الذي وقف وراء دعم الامبريالية للحركة الصهيونية، وبناء كيان عازل بين مصر والشام، حسب مذكرة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق، كامبل بنرمان.

الحالة السابقة مع العرب، تكررت أكثر من مرة في النصف الأول من القرن العشرين كما في النصف الثاني منه.

في المرة الأولى، عندما توهّمت إرهاصات او بواكير البرجوازية الشامية، ان بإمكانها إقامة دولة برجوازية في عموم الشرق العربي، بالتحالف مع القوتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، لإزاحة الاستعمار العثماني الاقطاعي كقوة هابطة، وقامت لهذه الغاية بالتواصل مع شريف مكة لتأمين غطاء ديني عربي لمشروعها ضدّ الغطاء الديني العثماني.

فاكتشفت هذه البرجوازية بعد فترة قصيرة، ان الاستعمار البريطانيالفرنسي ضد إقامة مثل هذه الدولة، وانتهت أوهامها مع تقطيع أوصال سورية الطبيعية الى كيانات لم تنجز حتى الآن اللحظة الحضارية المواكبة لفكرة الدولة القوميّة الحديثة.

أما المرة الثانية، فكانت بعد ثورة 23 تموز/ يوليو المصرية بزعامة جمال عبد الناصر، الذي استفاد من التجارب السابقة من زاوية إخفاق الرؤية البرجوازية الليبرالية، ولكن مع الوقوع في خطأ آخر.

وذلك حين توهّم انّ بإمكانه بناء مشروع دولة ناهضة حديثة بتحييد الاشتباك الدائم مع العدو الصهيوني، الذي تمّ تأسيسه أصلاً لمنع مصر من التحوّل الى قوة حديثة تجد نفسها موضوعياً في قلب مشروع الأمة ووحدتها، التي تهدّد المصالح الاستعمارية بالضرورة.

فما هي إلا سنوات قليلة حتى اكتشف انّ (الحرب في برّ مصر) (عنوان رواية ليوسف القعيد) لم تمنع العدو من مباغتة عبد الناصر بحرب أخرى على ضفاف القناة، والا أي معنى للمشروع الصهيوني ووظيفته غير حجز التطور، ومنع مصر من ان تتشكل كرافعة وكرة ثلج للأمة كلها.

بهذا المعنى، فإنّ العرب عموماً والمشرق، خصوصاً، مصر والهلال الخصيب (سورية الطبيعية) لا يستطيعون التقدّم شبراً واحداً خارج ما يمكن تسميته بـ (ديكتاتورية الجغرافيا العالمية) وما تفرضه من اشتباك استراتيجي يساهم في كلّ مرة بتقرير مصير العالم وخرائطه، فكيف إذا تعزّزت هذه الديكتاتورية بتداعيات الثورة المعلوماتية الرابعة وعودة البحار الى لعبة الصراعات الدولية.

انّ ثقافة المقاومة والاشتباك وتعميمها في كلّ هذا المشرق، أشبه ما تكون بالقدر الاغريقي، الذي لا مهرب منه ولا يؤدي الى البقاء في التاريخ وحسب بل وكشريك اساسي في تقرير مصائره.

وبهذا المعنى ثانياً، اذا كانت مشاريع التنمية والتطور الكبرى من محمد علي الى عبد الناصر، قد اصطدمت باستحقاقات الصراع الدولي في منطقة الهلال المتوسطي، وكان بعضها يدعو لبناء موديل عربي على غرار الرأسمالية الأوروبية، كيف بإمكان اقتصادات تابعة ومشوّهة وبنى اجتماعية متشظية، لم تقطع اي شرط حقيقي بين الحالة الطبيعية وبين الحالة الحضارية المدنية، ان تطرح جانباً كلّ تداعيات الاستحقاقات المذكورة، وتغرق بالحديث عن الالتحاق بركاب العصر عبر دعوات كوميدية عن حكومة التكنوقراط، ومطالبات مدنية غير سياسية تفتقر الى الحدّ الأدنى من الشروط الموضوعية للحالة المدنية نفسها.

فالدستور الحديث، والمواطنة والمدنية، وغيرها ليست نصوصاً وسجالات حقوقيّة، بل وقائع اجتماعية أنجزها الأوروبيون في قلب الثورة الصناعية ودولة وستفاليا القومية، حيث مفهوم الشعب والوطن والمواطنة نتاج هذه الثورة وتحوّلاتها المادية.

تحرّر وطنيّ لا حراك مدنيّ:

ما نخلص إليه هو أنّ المشهد العربي وظروفه وأهمية الجغرافيا السياسية الاقتصادية من حوله، ومفاتيحها الاستراتيجية، يحتاج الى إعادة إنتاج مشروع التحرر الذي يربط الصراع الطبقي بالصراع الوطني ضدّ تحالف الامبرياليين والصهاينة والرجعيين، ويحترم الوزن النسبي للقوى الفاعلة في هذه المرحلة وخاصة قوى المقاومة والممانعة وحضورها على مستوى الإقليم كله.

ولعلّ ما كتبه غرامشي عن الكتلة التاريخية والمثقف العضوي المشتبك وليس المثقف المدني، وكذلك ما كتبه ياسين الحافظ عن التجربة الفيتنامية (التحرير، التوحيد، والتقدّم) دليل عمل راهن يمكن التأسيس عليه ولا بديل عنه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى