دعوات التقسيم الانفعاليّة غير واقعيّة
– في مناخ الكثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المشتغلين بالشأن العام، حديث انفعالي عن ثقافتين لبنانيتين وبيئتين مختلفتين، بما يعني الفوارق بين بيئة المقاومة والبيئة المناهضة لها، والأفكار والقيم التي ترتبط بها كل منهما، كالتناقض بين دعوات الحياد ودعوات الالتزام بفلسطين، والتناقض بين دعوات التوجّه شرقاً وتجذّر لبنان في العلاقات مع الغرب، وصولاً للقول إن الحل الوحيد هو بالطلاق الودّي، تحت شعار لي ديني ولكم دينكم، سواء بصيغة تقسيم كامل لدول مختلفة أو تقسيم جزئي بصيغة فدرالية، او بما يرسمه البعض من صور خيالية لدعوات اللامركزية لمحاكاة هذا النوع من الطلاق، وليس بحثاً عن وظائف تنموية للامركزية.
– لا يهتم هؤلاء في النقاش لما ورد في الدستور حول رفض كل أشكال التقسيم والتجزئة فهم يتحدثون عن خروج كامل من فكرة الوطن الواحد، لكن لكونهم من غير المنطلقين من خلفيات تخريبية بل من غضب انفعالي يضيق معه صدرهم بتقبل الاختلاف، وعدم قدرتهم على الانتباه او الاقتناع بأن بمستطاع اللبنانيين إيجاد مشتركات كافية لجعل البعض من خلافاتهم مصادر قوة لهم، وتحسين قدرتهم على إدارة بعضها الآخر.
– لذلك وجبت مناقشة فرضيات التقسيم بلغة الإمكانية الواقعية التي لا ينتبه لها اصحاب هذه المواقف الانفعالية. والسؤال الأول هو حول فرضية قيام دولتين أو اكثر بدلاً من لبنان كدولة واحدة. وهنا بعيداً عن كون هذا الكلام موضوع سخرية عالمياً، والبعد العالمي أساسي بمفهوم قيام الدول ونشوئها، فالعالم يتجه نحو أطر توسّع مدى الاتحادات وليس نحو تصغير الكيانات السياسية وتكثير عددها، ومثال الاتحاد الاوروبي أمامنا، ولبنان كله يعادل واحدة من مدن العالم الكبرى وليس بحجم ولاية من ولايات الدول المتوسطة الحجم؛ فيكف بالدول الكبيرة المساحة والكثيرة السكان، والأهم بعد هذا أن لبنان غير قابل موضوعياً للتقسيم. فالطوائف لا تعيش منعزلة جغرافياً، ورغم الحرب وما رافقها من تهجير بقي التداخل السكاني والجغرافي يجعل رسم خرائط دول بين اللبنانيين استحالة لا تتحقق بمليون قتيل، هذا عن حقيقة يجب أن يدركها هؤلاء الدعاة للتقسيم وهي أن قيمة مناوئي المقاومة بعيون الخارج الغربي والعربي وتشجيعهم على مواقفهم والإعلان عن الاستعداد لدعمهم او دعم لبنان من خلالهم نابع من كونهم مع المقاومة في دولة واحدة، يمكن لهم أن يمتلكوا من خلالها تأثيراً على خيارات المقاومة بقوه الشراكة، وبحال سقوطها لا تبقى لهم أي أهمية توجب الالتفات اليهم.
– أما فرضية الفدرالية فتنسفها حقيقة أنها لن تحقق لأصحابها مرادهم، ففي الدولة الفدرالية سياسة خارجية موحدة وسياسة دفاعية موحّدة، ومثلها في اللامركزية، ومواضيع الخلاف اللبنانية هي هنا وليست في شكل إدارة الشأن الخاص بالمناطق، وستبقى قضايا الخلاف عنواناً للجمع الذي يريد هؤلاء لأجل التخلص منه الذهاب للفدرالية. وكذلك في الفدرالية ستبقى ليرة واحدة تجمع اللبنانيين، ومن يعتقد أنه بسبب المقاومة تشن حرب مالية لإضعاف لبنان مالياً، وبالتالي تصاب عملته بالأذى فلن يتخلص من تبعات هذه الشراكة عبر الفدرالية.
– قضية العيش في ظل دولة موحّدة لتنوّع في الجذور الدينية او العرقية، او لتنوّع في الأفكار، ليس معضلة لبنان وحده، ففي القرن الحادي والعشرين تعيش أوروبا هاجس التوازنات الديمغرافية الناتجة عن موجات الهجرة، وما يرافقها من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وتجد أن قدرها هو بالتفكير بعقلانية بكيفية ضمان وحدة مجتمعاتها بصيغها الجديدة، ومثلها تعيش أميركا رغم كل ما تشير إليه الأرقام من تقدمها الصناعي والسياسي، في ظل هاجس استيقاظ العنصرية كعامل انقسام عمودي يهدد وحدتها.
– تجاوز اللبنانيون مراحل أشد صعوبة من المرحلة الراهنة، ولا يحتاجون الا للانطلاق من التمسك بوطنهم الواحد ليتمكنوا من تجاوز هذه المرحلة.