أسئلة تطرح نفسها…
بشارة مرهج _
لا يختلف اثنان على خطورة الأوضاع العامة في لبنان والتي بلغت مبلغاً يهدّد وجوده نظاماً ودولة وحتى كياناً. ولعلّ أبرز الظواهر التي تطفو على السطح بعد انهيار الوضع الاقتصادي، ومعه الوضع السياسي، ظاهرة انحلال الدولة وتشظيها الى دويلات ومحميات تقتات على الشحن الطائفي بانتظار حلول خارجية تغرق في أوحال النظام وشرائحه الحاكمة – المتخاصمة التي تعجز عن اتخاذ خطوة إصلاحية واحدة سواء على الصعيد المالي أو الإداري أو المصرفي.
وإذ تواصل جمعية المصارف نفي مسؤوليتها عن السطو المتواصل على أموال المودِعين وادّعاء الدفاع عنها أمام السلطات الفرنسية، مطالبة بإنشاء صندوق سيادي يدير ممتلكات الدولة وتصبّ خيراته في صناديقها الملوّثة بالجشع والرياء، يُمعن حاكم البنك المركزي في سياسة الإنكار والتهرّب من المحاسبة بدعم من شبكة واسعة من الخبراء والسياسيين والمصرفيين والإعلاميين الذين استفادوا من هندساته المالية وهداياه السخية.
واللافت أنّ الطرفين يتفقان على تحميل الدولة وحدها مسؤولية الانهيار الاقتصادي والديون الهائلة المترتبة عن هذا الانهيار الذي تسبّب به هدر السلطات الحاكمة وفسادها. وإذا كان الطرفان على حق في ادّعائهما هذا إلا إنهما لا يقولان إلا نصف الحقيقة وذلك للتعمية على نصفها الآخر المتمثل بمسؤوليتهما الموازية لمسؤولية أركان الدولة في تخريب الاقتصاد الوطني وخدمة الطبقة الرأسمالية وامتداداتها الخارجية التي تسعى في إطار الصراعات الدولية والإقليمية الى محاصرة لبنان وإسقاط نبض المقاومة فيه، وتمكين الكيان الصهيوني الغاصب من المضي في مشروعه الإجرامي لتهويد القدس والأراضي الفلسطينية والهيمنة الكاملة على المنطقة العربية.
وعلى وقع القصف الإعلامي المتبادل الذي يعكس الانقسامات الداخلية المستشرية في البلاد ويستولد المزيد من الدعوات الطائفية والتقسيمية والفدرالية يجد اللبنانيون أنفسهم أمام دولة عاجزة منحلة فاسدة تضعهم أمام خيارين كلاهما مر. أما الغرق في لجّة الفراغ والفوضى، أو القبول بوصاية أجنبية تشمل الاقتصاد والسياسة لتصل إلى آخر خلية من خلايا الدولة والمجتمع.
صحيح انّ هذين الخيارين، بدفع من قوى محلية وخارجية، دينية وسياسية، يهيمنان على المناخ العام السائد في البلاد إلا أنّ الأمانة تقتضي القول بأنّ الاستسلام لأحد هذين الخيارين هو الخطأ بعينه. وهذا ما تراه فئات واسعة من اللبنانيين ترفض الأمر الواقع وترفض تغييب الإرادة الوطنية في الوقت الذي تسعى فيه إلى إشاعة ثقافة الوحدة والاستقلال والاتكال على الذات في عملية الإصلاح والنهوض المترابطة مع بعضها البعض. تلك العملية التي يمكن ويجب ان تستفيد من أي مساعدة أجنبية او مؤسسة دولية دون ان تخسر نفسها، مع العلم بأنّ لبنان كدولة هو صاحب رصيد لدى صندوق النقد الدولي الملزم معنوياً مساعدة لبنان. وهنا تطرح عن حقّ مهمة إجراء إصلاحات إدارية ومالية كمقدمة لا بدّ منها لتوفير المساعدات والقروض الميسّرة المرتقبة إذ من الطبيعي أن يمتنع أي طرف عن مدّ يد المساعدة إذا كانت الأموال ستجد طريقها الى جيوب المسؤولين الذين استباحوا المال العام وأهدروا كرامة اللبنانيين ولبنان على مذبح أطماعهم.
كما أنّ الناخب الأجنبي كما المواطن العربي أصبح حساساً تجاه أيّ مساعدة للبنان لا بل ممانعاً لها ما لم تكن حكومته مشرفة عليها. ومن هنا يمكن أن نفهم اللهجة القاسية التي استخدمها الرئيس الفرنسي مع القيادات اللبنانية وإصراره على التحقيق المحاسبي الجنائي في حسابات البنك المركزي وما ينطوي عليه ذلك من تشكيك في “أرقام” الحاكم الذي رفض مراراً وتكراراً تقديم ما عليه من كشوفات، دون إغفال بالطبع للدور المماثل الذي تلعبه السلطات في إشاعة البلبلة وعرقلة التحقيقات وتمييع المسؤوليات وتضييع الحقائق.
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم ويشكل تحدياً للجميع وخاصة لدعاة الاستقلال والإصلاح هو كيف يمكن أن ننقذ لبنان من السقوط في قبضة الأجنبي ومشاريعه فيما لو تخطت المساعدات والقروض المرتقبة شروطها المعلنة وعملت على شلّ الإرادة اللبنانية والهيمنة عليها، وما العمل إزاء تفاقم الوضع الحالي واتجاهه نحو الهاوية في ظلّ تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية والصحية التي تتغذّى من بعضها البعض لتشكل عاصفة عاتية، شبيهة بانفجار المرفأ، تأخذ في طريقها ما تبقى من لبنان ومؤسّساته وعمرانه فضلاً عن فرادته ورمزيته في هذه المنطقة الملتهبة من العالم؟! هذه الأسئلة وسواها مطروحة بقوّة أمام القوى الوطنية والديمقراطية التي لا تزال تقارب الأوضاع من زوايا فئوية أو طائفية.
* وزير ونائب سابق