خالد علوان حقيقة ماضٍ وحاضر ومستقبل
ناصر قنديل
– في مثل هذا اليوم قبل قرابة أربعة عقود، كانت بيروت عاصمة الكلمة الحرة والفكرة الجديدة، عاصمة الشعر والموسيقى والمعارض والمسارح، عاصمة الخير والجمال بين عواصم العرب، تسقط مضرَّجة بدمائها تحت جنازير دبابات الاحتلال، وسط تصفيق وترحيب الكثير من العرب واللبنانيين، الذين ركب بعضهم متن الدبابات، وركب بعضهم موج البيانات، وبدا أن عاصمة عربية ثانية بعد القدس تدخل العصر الإسرائيلي، لحقبة ستفتح الباب لسقوط آخر وعاصمة أخرى. ولم يكن في بيروت إجماع على المقاومة، ولا حتى أغلبية، ولا كان سلاح شرعته الدولة، وسلاح الدولة الشرعي يومها كان يتم ترويضه وإخضاعه من بوابة اغتصاب الشرعية الدستورية في قصر بعبدا لصالح مشروع الاحتلال الرئاسي، ولم يكن الأمر بحاجة لسن قانون أو صدور مرسوم، ولا لأشهر وأسابيع وأيام، فخلال ساعات امتشق خالد علوان ابن بيروت، جسده ومشى نحو شارع الحمراء حيث يعرف خطواته كنبض قلبه، واطلق دمه رصاصات تكفلت بحسم الموقف، بيروت لن ترفع الراية البيضاء، وعلى جيش الاحتلال أن يغادر. وبدأ جيش الاحتلال يلملم شظايا وأشلاء مشروعه الذي بدأ العد التنازلي لمصيره منذ تلك الرصاصات.
– خالد علوان الذي ترجم روح ونص عقيدة حزبه، الحزب السوري القومي الاجتماعي، ونبض زعيمه الذي اختصر الحياة بوقفة العز، ليس شيئاً من الماضي ولا مجرد ذكرى، بل هو حقيقة حاضرة ومستقبلية، بمقدار ما هو الحقيقة التي كتبت تاريخنا، وجوهر هذه الحقيقة، أن المقاومة خيار وقرار، لا يحتاج الكثرة ولا الإجماع ولا الأغلبية، ولا ينتظر الإذن ولا الإقرار بالشرعية والمشروعية، وأن المقاومة لا ترتبط بحساب ربح وخسارة وضمان فوز بالمعركة، وتحقق من توازن القوى، وأن المقاومة ليست إضراباً نقابياً يرتبط إشهاره بمنسوب وعي عام، وتدرّج في المطالب ورفع السقوف، فالمقاومة خلافاً لكل ذلك فعل إرادة فردية تنطلق من اليقين بأنها صرخة التاريخ بوجه العدوان لتسجل باسم رمزية الأمة، رفض الرضوخ والاستسلام، والمقاومة بناء للكثرة واتجاه نحو الإجماع بقوة خلق الوقائع المؤدية الى النصر، والمقاومة تشكل للوعي من فوهة حقائق كتبت بالدم تصعب مجادلتها ولا التنكر لإشعاع نورها، والمقاومة صناعة لموازين القوى لا مجرد انتظار بارد لتغيرها، فالتوازن بين قدرة النار وروح الاستشهاد معادلة المقاومة الحاسمة، حتى تتسع بقعة النور بحجم أعداد الشهداء، وتتغيّر الموازين تحت إيقاع حقائق المقاومة الجديدة، تضرب يدها على الطاولة، وتعلن سيادة عصرها.
– مَن يستطع الإنكار أن الاحتلال الذي دخل بيروت رحل عنها خلال أيام، خلافاً لما كان يرغب؟ ومن يستطع الإنكار أن سقوط راية الإحتلال حصل بفعل هذه الإرادة العظيمة التي بشرت بها رصاصات خالد علوان وشكلت إيذاناً بولادتها، وأنه مع هذا التحول التاريخي الذي تأسس في بيروت، ولدت شرعية جديدة، وأغلبية جديدة، وإجماع جديد، وميزان قوى جديد، ووعي جديد؟ وأن هذا التشكل الذي جرى في اللحظات الفاصلة بين ضغط أصابع خالد علوان على زناد مسدسه واستقرار رصاصاته في صدور المحتلين، هو اللوحة التشكيلية الجديدة التي قدمتها بيروت في معرض التاريخ، وهو الفكرة الجديدة التي أضافتها بيروت للفلسفة والسياسة ومفهوم الشرعية والمشروعية، وهو القصيدة الجديدة التي كتبتها بيروت، بفائض الحرية الذي فاض به دم السوري القومي الاجتماعي خالد علوان.
– من يستطيع الإنكار أنه بقوة هذا التحول التاريخي، انطلق موج هادر في جسد الوطن وجسد الأمة، ونهضت مقاومة تحمل ألوان الطيف الفكري والثقافي والعقائدي لأحرار الوطن والأمة، وخلال شهور وسنوات تراكمت الحقائق، حتى تحقق الإنجاز تلو الإنجاز، تحريراً يلي تحريراً، وصولاً للإنجاز الكبير في أيار عام 2000. وهذا معنى أن الشهداء لا يموتون، لأنهم يجسّدون بشهاداتهم حقائق خالدة غير قابلة للتغيير ولا التعديل، ففي كل لحظة يطلب أحد للمقاومة أغلبية أو إجماعاً يبررانها، أو قانوناً أو مرسوماً يشرّعانها، أو نضوج وعي جامع وتكامل موازين قوة، تؤكد نصرها كشرط لانطلاقها، سنقول لهم ردّنا عليكم هو دم خالد علوان، الذي حرّرنا وحرّركم، ولو التزم بما تطلبون، لما كانت لنا ولا كانت لكم هذه الحرية، وما كان صحيحاً في ذلك الأمس بدم خالد، هو صحيح لليوم، وسيبقى صحيحاً كل يوم، بدماء تحمل بذرة التحول الى الف خالد وخالد، من دون اذن أحد، ومن دون شرعية من أحد، الا شرعية الحق واذن الدم بملاقاة الشهادة.