أنطون سعاده بانياً نهضة أمة ومفكراً مدرسة مؤسسة تركت آثاراً عميقة في الفنون والآداب الإنسانيّة
لم يكن سياسياً فقط ولا مؤسس حزب فقط بل مؤسس قضية أمة وكاشف قوة نهضتها
} د. ادمون ملحم
مدرسة أنطون سعاده الفكرية جاءت بفلسفة عميقة تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا وتراهن على ما فينا من قدرة وقوة وإبداع، فلسفة ُتعلّمنا انه إذا لم تُنزّه نفسيتنا عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن أمتنا ستبقى فاقدة استقلالها الحقيقي وفاعليتها الذاتية في هذا الوجود.
وإذا حاولنا أن نستقصي التأثير لا بل الآثار التي تركتها مدرسة سعاده والتي ما زالت تنتج عنها في جميع شؤون الحياة لاحتجنا إلى وقت طويل لتعداد هذه الآثار. لذلك أكتفي هنا بالقول إن من نتائج آثار المدرسة القومية الاجتماعية في حقول الفكر والقانون والثقافة والفلسفة والآداب والمسرح والموسيقى والفنون مئات الكتب والمؤلفات والمطبوعات والدراسات الأكاديمية وعدد كبير من النشاطات الأدبية والشعرية والأعمال الفنية والمسرحية والمشاريع القانونية والدستورية والندوات التربوية والفكرية حول مواضيع مختلفة تخص مجتمعنا السوري وكيفية النهوض به.
ولقد كان لظهور المدرسة القومية الاجتماعية أثر بالغ وعميق في المجال السياسي تبدو عوارضه في الخطاب السياسي والمفاهيم السياسية والشعارات الوطنية والحزبية وفي لغة ومواضيع الإعلام ووسائله المختلفة وبرامج المرشحين في الانتخابات النيابية، كما تبدو في مجرى الحياة السياسية والأحداث التي شهدتها ساحتنا القومية منذ عام 1935 ابتداء بمعارك الاستقلال ضد الانتداب ومروراً بالانقلابات العسكرية والمحاولات الثورية حتى أحداثنا الأخيرة بما فيها معارك التحرير والعمليات الاستشهادية ضد العدو اليهودي. وفي المجال السياسي ايضاً، يمكن الإشارة إلى ان مدرسة سعاده لم يقتصر دورها على تخريج المناضلين المنضوين في صفوف الحزب، بل على تخريج أشخاص انصرفوا إلى العمل السياسي خارج صفوف الحزب فبعضهم وصل إلى مواقع السلطة التنفيذية والتشريعية والعسكرية وبعضهم الآخر انصرف إلى تأسيس، أو المساهمة في تأسيس وقيادة أحزاب وتنظيمات أخرى.
اهتم سعاده بالأدب والقضية الأدبية في سورية، وذلك لأن الأدب يشكل إحدى ركائز النهضة القومية التي أرادها لمجتمعه. وخلال انشغاله في هذا الميدان اضطر إلى أن يتناول بالنقد والتحليل أعمال كبار أدباء زمانه وشعرائه وذلك لما رأى في أعمالهم من تقليد وفوضى وعدم إبداع ومن أدب ذليل وعقائد مسمِّمة للنفوس لا بد من مواجهتها من منطلق المصلحة العامة للمجتمع لأنها تمثّل عقلية الانحطاط والسفول والأنانية. وكما شنَّ سعاده حرباً على أعداء الأمة الداخليين من إقطاعيين ورأسماليين ورجال السياسة النفعيين كذلك شنَّ حرباً على الأدباء والشعراء الرجعيين الذين بدلاً من أن يساهموا في نهضة شعبهم وفي السير به نحو مراتب العزّ والفلاح والتقدم، راحوا يكرّسون حالات الفوضى والذل والشك والانحطاط التي يعاني منها مجتمعنا وذلك بما أثاروه في أدبهم من نعرات مذهبية وفئوية وخصوصية ومن مواضيع لا ترمي إلا إلى حب الذات والأنانية والمجد الشخصي.
لذلك كتب سعاده عن الحاجة إلى التجديد الأدبي في سوريه ودعا الأدباء والشعراء السوريين إلى الأخذ بنظرته الجديدة الى الحياة والكون والفن لينتجوا على ضوئها أدباً جديداً خارجاً من صميم حياتنا السورية ومعبراً عن مطامحنا ومثلنا العليا في الحياة، أدباً جميلاً نكتشف فيه تاريخنا وحقيقة نفسيتنا التواقة الى الإبداع والتقدم والجمال، أدباً يفهم حياتنا ومقوماتها ويرافقنا في تطورنا فيكون لنا منارة هادية بأنوارها وليس مرآة تعكس ما في مجتمعنا من حالات الفوضى والاستكانة والذل.
هذا الأدب الجديد الذي دعا إليه سعاده كي يتحقق النهوض للشعب كله هو أدب الحياة الذي تكمن فيه عوامل التجديد وتنبع منه روئ جديدة تسير بنا إلى تحقيق الحياة الجميلة والسامية التي نطمح اليها. وبهدف إنتاج هذا الأدب الجديد خاطب سعاده جميع شعراء سورية قائلاً:
«تعالَوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور حقيقتنا وأمل إرادتنا وصحة حياتنا. تعالوا نشيد لأمتنا قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا السورية ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها المتناولة قضايا الحياة الإنسانية الكبرى. تعالوا نأخذ بنظرة إلى الحياة والكون والفن نقدر، على ضوئها، أن نبعث حقيقتنا الجميلة العظيمة من مرقدها – حقيقتنا التي لا ترى الحب خدوداً ونهوداً وقدوداً دونها القتاد والقصّ، ولا ترى الشباب أفواهاً ملصقة بأفواه وشرراً محتدماً في المقل وثغوراً لاهبة تضطرم فيها شعلات القبل، بل ترى الحب نفوساً جميلة في مطالب عليا عظيمة تحمل النفوس في سبيلها المشقات الهائلة التي يذللها اتحاد النفوس في وحدة الشعور والمطلب– الحب الذي قرّب فماً إلى فم سكب نفساً في نفس، وكل واحدة تقول للأخرى، إني معك في النصر والاستشهاد من أجل ما تأبه نفسانا إلاه، ولا تستعظمان أمراً ولا تضحية يكون بهما بلوغه والاحتفاظ به».
ويضيف سعاده:
«تعالوا نقيم أدباً صحيحاً له أصول حقيقية في نفوسنا وفي تاريخنا. تعالوا نفهم أنفسنا وتاريخنا على ضوء نظرتنا الأصلية الى الحياة والكون والفن. بهذه الطريقة نوجد أدباً حياً جديراً بتقدير العالم وبالخلود».
سعاده وجّه أنظار الأدباء والشعراء إلى الأساطير السورية الأصلية الراقية واهتم ببعثها والتأمل في مضامينها للأسباب التالية: أولاً، لأنها تعكس عظمة التصوّر السوري، والتفكير السوري في قضايا الحياة وأسبابها وأشكالها. ثانياً، لأنه أراد خلق حالة من الاستمرار الفلسفي بين التراث السوري القديم والإبداع السوري الجديد. وهو القائل بالاستقلال الروحي وضرورة العودة إلى تراثنا الغني لننهل من مآثره الثقافية وكنوزه الروحية الثمينة ولنحقق «التجديد النفسي والأدبي والفني الذي نشتاق ونحنُّ إليه بكل جوارحنا»، لأنه لا نهضة ولا تجديد بالتخبط الفكري والاقتباس عن الآداب الأجنبية وبالانسلاخ عن حقيقتنا وتاريخنا، بل بالعودة إلى ذاتنا الأصلية، إلى جذورنا وماضينا وإلى ما يتكشّف عنه هذا الماضي من فكر ورؤى ومُثلٌ ومن نبوغ ورقي وحافز روحي يحرّك عوامل الحياة والارتقاء. وثالثاً، لأن هذه الأساطير احتوت على معاني فلسفية عميقة مرتبطة بالوجود الإنساني وقضاياهما تضمنت حكماً غنية وقيماً روحية وإنسانية أراد سعاده ترسيخها في النفوس من أجل تحقيق النهوض القومي. وهو قال:
إلى مقام الآلهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور.
التجاوب مع دعوة سعاده:
ولقد تجاوب عدد كبير من أدباء سورية وشعرائها مع دعوة سعاده بعد أن فهموا القضايا الكبرى التي تثيرها نظرته الجديدة في مختلف مجالات الحياة وخاصة في الأخلاق والمناقب والمثل العليا. فانضموا إلى حركته وجاء إنتاجهم الأدبي والشعري يعكس النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، هذه النظرة التي نتج عنها مجرى حياة جديدة وأصبحت مصدر إلهام لجميع الأدباء والشعراء والقاصّين والفنانين الذين اتصلوا بها وفهموا قضاياها الكبرى في مختلف شؤون الحياة. ولقد ظهر تأثير هذه النظرة الجديدة في حركة «شعر التموزية»، حركة الحداثة التي ضمت عدداً لا بأس به من الشعراء السوريين. وفي هذا المجال يقول الدكتور نذير العظمة:
»إن أغلب الشعراء التموزيين ما خلا جبرا ابراهيم جبرا وبدر شاكر السياب كانوا ينتمون إلى الحركة القومية الاجتماعية او يتصلون بها بشكل من الأشكال. فالدكتور خليل حاوي وأدونيس ويوسف الخال وهم من رواد الحركة التموزية لم يكونوا أعضاء في الحزب فقط بل مارسوا فيه مسؤوليات ثقافية وفكرية مهمة. وبكلمة أخرى كانوا على معرفة حميمة بما يكتب انطون سعاده وينظّر في مسألة التجديد في الشعر بشكل خاص والأدب والفكر بشكل عام..».
الشاعر ادونيس، الذي نشر أبحاثاً ومقالات وقصائد وملاحم في «الجيل الجديد» و»البناء» في دمشق، يؤكد بعد مرور ما يقارب الأربعة عقود من الزمن على تركه الحزب السوري القومي الاجتماعي بأنه مدين بشعره وأدبه لأنطون سعاده، كما يؤكد أن كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» كان المؤثر على تفكيره وإنتاجه الشعري. ويقول إن هذا الكتاب »كان صاحب الأثر الأول في أفكاري وفي توجهي الشعري. ولأنه بالإضافة الى ذلك، أثّر تأثيراً كبيراً في جيل كامل من الشعراء، بدءاً من سعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف الخال وفؤاد سليمان، وانتهاء بخليل حاوي… وكان إلى ذلك ملهماً لكثير من الأفكار والآراء الشعرية والنقدية في النقاش الذي دار حول مجلة «شعر» والمشكلات التي أثارتها».
وفي مكان آخر، يؤكد أدونيس على المؤثر النهضوي في قصيدته التموزية وفي قصائد غيره من شعراء مجلة شعر، فيقول:
«ليس بين قصيدتي وقصيدة خليل حاوي أي التقاء. ذلك ان القصيدتين تنبعان من مصادر واحدة أطلقها في بلادنا عقائدياً أنطون سعاده، وحققها من ناحية استخدام الشعر شعراء في الغرب قبل خليل حاوي وقبلي. فليست مجهولة دعوة أنطون سعاده شعراء بلاده للعودة الى أساطيرها واستخدامها في نتاجهم، وذلك في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري».
ولكن شعراء الحركة التموزية لم يكونوا الوحيدين الذين تجاوبوا مع دعوة سعاده لخلق أدب جديد يعبر عن مطامح ومرامي النفسية السورية بل كان قبلهم وبعدهم عدد كبير من الشعراء والأدباء الذين اتصلوا بالحركة القومية الاجتماعية فأعطوا أدباً جديداً بالممارسة والفعل… وعن هذا التجاوب يشير الدكتور نذير العظمة:
«أن هناك شعراء آخرين أمثال اورخان ميسر ومحمد الماغوط وفايز خضور وكمال خير بك وغسان مطر وقبلهم عبدالله القبرصي في مصرع السمنة وقصائده الكلاسيكية ومحمد يوسف حمود في ملحميّاته عن الحركة فهم ثروات شعرية، وعلى النقاد الشباب أن يلتفتوا بعنايتهم إلى هذه المناجم الغفل التي تنتظر الدراسة وتسليط الضوء. ويمكن القول إن حركة النهضة وديناميتها وتاريخها المتمحور حول فكر المؤسس ترك في شعر هؤلاء جميعاً بصمات فكرية وشعرية مميزة».
لقد نفخ سعاده بهؤلاء الأدباء والشعراء روح التجديد والإبداع والحياة وزوّدهم برؤيا فكرية – شعورية جديدة إلى الحياة والموت والكون والفن، رؤيا ضرورية لحصول التجديد في الأدب إذ إن الأدب لا يمكن ان يحدث تجديداً من تلقاء نفسه فالتجديد في الأدب هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. ويختصر د. ربيعة أبي فاضل ما فعله سعاده:
رأيتموه رجلاً ارتقى بالأمّيين إلى واحات المعرفة، ورعى المواهب حتى هبّت مواسمها في كل اتجاه، وخلق عزماً، ووعياً، وعزاً في أجيال كثيرة. ورأيتموه يُغني الأدب بماء التراث، ونار الأساطير، وتطلّع الحياة الجديدة، في مجتمع جديد، يقوده إنسان جديد إلى روحية جديدة. ورأيتموه يبعث تيّاراً قوميّاً منفتحّاً على العروبة، والإنسانية، انطلاقاً من أصالة، وبناء على هوية، وارتكازاً في عقيدة، أولّها سياسة، وآخرها فكر وبناء. ورأيتموه يدعو الشعراء والفنّانين والأدباء، والبحّاثين إلى الابتكار والبعد عن الاجترار، وإلى الإبداع، والبعد عن الاقتباس وإلى تكوين موقف جدّي من الحياة والوجود، والبعد عن السطحية، والأنانية، والاستهتار بالحقيقة.
ويقول المحامي الأديب عبدالله قبرصي: «كانت لنا قبل مدرسة فكر سعاده أفكار غير مركّزة على قواعد، كنّا هوائيين، لم يكن لدينا مقاييس ومعايير، ولذلك لم تكن لنا نظرة جديدة إلى الأدب». أما الدكتور نذير العظمة فيقول:
مع سعاده، تعلمنا التجاوز بالممارسة الحية، كما في الحياة كذلك في الفكر والشعر، وجسدناه عبارة جديدة مشموطة من القلب أو مسحوبة من عتمات النفس في ضوء مفاجئ هو ضوء الإبداع والحرية».
ويضيف:
أنطون سعادة لم يقترح علينا شكلاً شعرياً معيناً لم يلزمنا بمدرسة فنية دون أخرى لم يتدخل في أوزاننا وقوافينا، لم يحد من حريتنا واختياراتنا، لكنه أعطانا مفاتيح ذهبية تفتح كل الأقفال المغلقة وتزيل كل الطلاسم والألغاز التي امتلأت بها ذاكرة المجدّدين الذين ظنوا أن التجديد هو في الشكل فدمّروا حيويتهم الشعرية بتفتيق العبارة الشعرية المتجددة لا الجديدة وصقلها وقضوا أيامهم ولياليهم بصيد العناكب المذهبة والذبان الملون. ظنوا أن الحياة والشعر ينفصم الواحد عن الآخر كمن يفرغ العظام من النخاع والجمجمة من الدماغ ويتكلم بعدئذ عن التوازن والانسجام والقوة.
أما الدكتور ربيعة أبي فاضل، فيظهر في كتابه القيّم عن أثر سعاده في أدباء عصره كيف رعت الحركة القومية الاجتماعية الأدباء والشعراء وفجّرت مواهبهم وأسهمت في إطلاق شهرتهم. ويذكر أبي فاضل بعض الأسماء الكبيرة من الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين التي انضوت تحت مظلة هذه الحركة في الأربعينيات والخمسينيات «ومنهم صلاح لبكي، صليبا الدويهي، جورج مصروعة، كريم عزقول، علي أحمد سعيد (أدونيس)، كمال خير بك، وليم صعب، خليل حاوي، هشام شرابي، نذير العظمة، غسان التويني، نوّاف حردان، رشدي معلوف، محمد الماغوط، عبدالله قبرصي، محمد يوسف حمّود، فؤاد سليمان، إميل مبارك، محمد شامل، سعيد عقل…». وسعيد تقي الدين الذي قال: «تجرّدت عن أنانيتي، وتجنّدت في حركة منقذة هي أكبر مني». وإلى هذه الأسماء، يضيف أبي فاضل مجموعة أسماء معروفة من شعراء المحكيّة، الشعر العاميّ، الذين انضووا في الحزب وكان لهم تاريخ خصب في حركتهم، وهم: إيليّا أبو شديد، عجّاج المهتار، أديب حداد (أبو ملحم)، وليم صعب، حنينة ضاهر، يوسف روحانا.
ويشير مدير كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، الدكتور وجيه فانوس، في كلمة ألقاها في ندوة دراسية حول أدب الرفيق الراحل محمد يوسف حمود، إلى بعض الأثر الذي تركته دعوة سعاده الحضارية فيقول:
»أنطون سعاده لم يكن مجرد زعيم سياسي! بل هو صاحب دعوة حضارية تستغرق الوجود الإنساني بكليته، وتحوي فيما تحويه قضايا السياسة كما بقية قضايا الحياة، ومن قضايا الحياة الأدب. وأنطون سعاده لم يهمل أبداً قضايا الأدب، فله فيها مبادئ وأفكار وآراء، وله فيها نظرات ترتبط بالرؤية الحضارية التي كان يدعو لها. ولذا فإني أميل إلى اعتبار سعاده واحداً من أهم المنظرين للفعل الأدبي في بلادنا. أولاً لأنه فهم الأدب مجالاً من مجالات تحقيق الفعل الحياتي؛ وثانياً، لأن من آمنوا بدعوته الحضارية مارسوا، او هم سعوا، إلى ممارسة الفعل الأدبي من خلال الرؤية التي قدمها سعاده. ومن هؤلاء كان محمد يوسف حمود».
ويوماً بعد يوم، يتجلى الدور العميق للفكر القومي الاجتماعي ولقوته فنقرأ اعترافات الشعراء والأدباء والروائيين والموسيقيين والمثقفين بتأثرهم بهذا الفكر وبالأثر الذي تركه سعاده في مسارهم وتفكيرهم. ولو شئنا أن نضع لائحة تضمهم جميعاً أو أن نستحضر بعض الاعترافات لاحتجنا إلى صفحات عديدة من الورق. لذلك نكتفي بإيجاز بعض الشهادات:
الموسيقار توفيق الباشا يقول:
»أنا أشعر بالمدرسة القومية الاجتماعية التي وعتني على واقعي الموجود أصلاً وعبر التاريخ لذلك فكل أعمالي منصبّة على هذا الخط».
بالإضافة إلى الموسيقار توفيق الباشا، فلقد انتمى إلى الحزب مجموعة من الموسيقيين والمسرحيين والصحافيين والباحثين المعروفين، نذكر منهم الموسيقار المبدع زكي ناصيف، والموسيقار حليم الرومي، محمد علي فتّوح، الفنان زياد بطرس، ميشال نبعة، جميل ملاعب، أمين الباشا، حليم جرداق، الياس الديري، سنيّة صالح، حليم بركات، خالدة السعيد، الياس مسوح، فؤاد رفقة، خالد زهر، محمد البعلبكي، محمد شامل، أنيس الصايغ، هانيبعل عطيه، يوسف سلامة، جورج عبد المسيح، جان دايه، حيدر حاج إسماعيل (عبود عبود)، أسد الأشقر، يوسف الأشقر، هنري حاماتي.. وغيرهم.
وبالعودة إلى الموسيقار زكي ناصيف، فمن المعروف أنه انتمى إلى الحزب ولحّنَ مجموعة من الأغنيات والأناشيد التي لها علاقة بالحزب وسعاده. ويمكن للمدقّق بالنصوص التي نظّمها زكي ناصيف أن يلاحظ تأثير فكر سعادة المباشر ونظرته الجديدة في مضمون وتوجّهات العديد منها. وفي مقابلة أجراها معه الكاتب محمد أبي سمرا ونشرت في ملحق النهار، تحدّث الفنان زكي ناصيف عن انتمائه القومي، فقال: «انتميت إلى العقيدة القوميّة حينما كانت هذه العقيدة قبلة أنظار المتعلّمين من أبناء الريف، وما زلت ثابت الإيمان بها. فالانتماء القوميّ ليس انتماءً عابراً، بل يستمرّ العمر كلّه. فالإنسان لا يصير عضواً بنّاءً وفاعلاً في أمّته وبلده ومجتمعه إلا إذا أحسّ بأهميّة الأرض وقيمتها المادّيّة والروحيّة. وبدون هذا الإحساس يظلّ الإنسان هامشيّاً وضائعاً».
الروائي المسرحي عصام محفوظ يشير إلى ان مسرحية «قدموس» لسعيد عقل، وهي إحدى أجمل المسرحيات الشعرية في أدبنا الحديث، تظلُّ مدينة بكتابتها إلى توجيه سعاده للشاعر المذكور أيام كان في جو الحركة القومية الناشئة. ويضيف الروائي محفوظ، أن التأثير الأكثر مباشرة في المجال المسرحي تجسّده مسرحية «المنبوذ» لسعيد تقي الدين العام 1951 وهي أول مسرحية بالعربية يمكن تصنيفها كفاتحة المسرح الملتزم. وتأثير سعاده، يتابع عصام محفوظ قائلاً، »شمل بعض إنتاج «محترف بيروت للمسرح» الذي أنشئ بإشراف نضال الأشقر وزميلها آنذاك روجيه عساف وخاصة مسرحية «مجدلون» التي كتبها هنري حاماتي للمحترف، ووضعت أنا كلمات نشيدها المقتبس عن عبارة لتشي غيفارا، والذي لحنه وليد غلمية. وكذلك يمكن الإشارة إلى مسرحيات أخرى مثل مسرحية «الستارة» لرضا كبريت وميشال نبعة، وأيضاً المسرحيات الشعرية القصيرة التي ضمنها ادونيس ديوان «اوراق في الريح» وبعض أعمال نذير نبعة وغيرها…
وبالخلاصة، نقول إن لسعاده ولنظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفن تأثيرات مهمة في شتى مجالات الحياة وفي تحريك الأعمال الفكرية والثقافية والأدبية والفنيّة. لقد كان للحركة القومية الاجتماعية دور طليعي في تحريك العمل السياسي والثقافي والنضال القومي في ساحة الوطن وفي المغتربات. إن الأثر الذي تركه سعاده، دفع بالدكتور ربيعة أبي فاضل للقول إنه «بات من المستحيل على مؤرخي الأدب وعلى النقّاد أن يتجاهلوا دور هذا الرائد الكبير في تغيير الحياة، عندنا، وفي توجيه الأدب نحو إضاءة التراث، وبناء مستقبل الأمة، وكرامتها». وفعل المدرسة القومية الاجتماعية وأثرها في الحياة السورية، دفع بالأمين الراحل مصطفى عبد الساتر للقول ان «هذه المدرسة ما زالت الشغل الشاغل للدوائر الاستعمارية والصهيونية في منطقتنا، بل حتى في عقر دار هذه الدوائر التي حمل إليها المغتربون من أبنائنا هذا الفكر الفاعل المناضل والمتحدي».