قصة تشكيل حكومة لم تكتمل فصولها وانتهت بالاعتذار…
} علي بدر الدين
أخيراً، اعتذر الرئيس المكلف السفير مصطفى أديب عن عدم تشكيل الحكومة، وخرج من ساحة معركة التأليف الشاقة بأقلّ الخسائر، ومنها أنّ اللحظة السياسية داخلياً وإقليمياً ودولياً التي تمّ فيها اختياره لتأليف «حكومة مهمة» معقدة جداً، والكباش فيها على أشدّه. وربما حظه العاثر لم يتح له النجاح في مهمته الحكومية ليدخل جنة نادي رؤساء الحكومات.
السفير المكلف الذي اعتذر وحيا وشكر الذين وثقوا به ووقفوا إلى جانبه، يغادر مهمة التشكيل الذي لم يستطع كتابة خاتمتها السعيدة التي كان يتمنّاها، يعود إلى مقرّ عمله في السفارة اللبنانية في برلين، متأبّطاً ملفاً مليئاً بالأسرار والذكريات، وتجربة جديدة في حياته لم يكن يتوقعها أن تحصل إلا كحلم مشروع.
بعد اعتذار الرئيس المكلف سقطت ورقة أمل ربما كان يعوّل عليها، خاصة أنها من شجرة فرنسية، لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعون سقوطها، وهي لم تبلغ الحلم بعد، ولم يعد ينتظر من الطبقة السياسية الحاكمة أيّ جديد إيجابي يمكن أن تعلق عليه الأمال ويغيّر في المشهد السياسي العام في لبنان أو يمكن البناء عليه، ويؤشر إلى أنّ هذا البلد المنكوب وشعبه الفقير، الذي بدأ الجوع يطرق أبوابه، واقتصاده ينهار، وقد نهبت أمواله وهرّبها عدد من السياسيين والمصرفيين إلى مصارف خارجية، وتتراكم ديونه، الى أنّ الآتي من الزمن قد يكون أفضل، كأنّ ما يحصل اليوم هو مجرد سحابة عابرة في سماء لبنان وفوق أرضه المحروقة، ولن يكون لها أية تداعيات كارثية، مع أنّ اللبنانيين في قلبها وفي عين الفقر والبطالة والمرض والقهر والإهمال والحرمان والفساد والتحاصص والسطو على أموال المودِعين في المصارف من المقيمين والمغتربين الذين دفعوا ثمن غربتهم دماً ودموعاً وعرقاً ومعاناة وقلقاً دائماً على سلامتهم وعائلاتهم ومصالحهم.
مع أنه كان بإمكانهم وضعها في مصارف خارج حدود الوطن، اسوة بما فعله السياسيون والمصرفيون المتحكمون بالسلطة والمال والنفوذ. غير أنّ انتماءهم الوطني ومواطنيتهم النقية والوفية الخالية من المصالح السياسية والشخصية والأنانية، دفعتهم إلى ركوب الخطر والمجازفة والتضحية، مع أنهم يدركون بل يعلمون علم اليقين، أنّ الطبقة السياسية المالية المتغولة تتربّص بالمال العام والخاص للإنقضاض عليه، من دون رحمة أو مسؤولية أو رادع وطني وأخلاقي.
وقد بدا التواطؤ واضحاً بين بعض هذه الطبقة السياسية والمصرف المركزي والقطاع المصرفي لمصادرة أموال المودعين في المصارف، والسطو عليها، وتهريبها إلى خارج لبنان. العجيب الغريب أنّ الثلاثي الناهب يعترف بجريمته الموصوفة، وتبرير اقترافها من دون ان يرفّ له جفن، تحت عناوين باطلة ومرفوضة جملة وتفصيلاً، وإطلاق وعود كاذبة ومزيّفة بإعادتها إلى أصحابها، وأنها مصانة ومحفوظة في جيوبهم وخزائنهم وأرصدتهم في المصارف الخارجية، أو في غرف التخزين التي تتكدّس فيها الأموال المنهوبة في صناديق حديدية مجهّزة بوسائل التهوئة والأمان.
على طبقة المال والسلطة التي لا تشبع رغم امتلاء جوفها بالمال المنهوب من خزينة الدولة ومؤسّساتها ومن الشعب اللبناني، الذي أصبح في الحضيض، وكما يُقال على «الحديدة»، حتى هذه سرقوها، ان تتعظ مما حصل لحكام عرب، بعد أن غضب الشعب وأرغمهم على الرحيل تحت أجنحة الظلام، تاركين خلفهم صناديق المال والمجوهرات، وكلّ ما سرقوه وجمعوه على مدى سنوات من استباحة حقوق الوطن والمواطن والدولة، ومنهم من قضى، ومنهم من يقتات من التسوّل والوقوف على أبواب حكام يشبهونهم في الظلم والاستبداد وقهر شعوبهم وإذلالها.
إنه مصير واحد سيطال كلّ هؤلاء الذين تحوّلوا إلى أثرياء نهب وحرب، والذين يكدّسون أموالاً ليست لهم ولا من حقهم ولا من تعبهم أو أنهم ورثوها عن أجدادهم وآبائهم. والشعب اللبناني برمّته «يعرف البئر وغطاءه» وكيف كان البعض وأين أصبح، ويسأل مع أنه يعلم «من أين لهم كلّ هذه الأموال «المتلتلة: (تلال)؟
من باب النصيحة للطبقة السياسية وحيتان السلطة والمال «وكانت النصيحة بجمل» أن لا خيار أمامكم سوى التوبة والعودة إلى ضمائركم أو ما تبقى منها، وإلى وطنكم إذا ما زلتم تعترفون به وطناً لكم، وإلى شعبكم الفقير والجائع والعاطل من العمل الذي يموت غرقاً في محاولات يائسة منه للبحث عن الأمن والأمان المفقودين في وطنه أو يموت قتلاً وجوعاً. ما زال أمامكم في الوقت بقية للاعتذار لشعبكم عما ألحقتموه به من قتل وإفقار وتجويع وإذلال ونهب وانهيارات اقتصادية وإفلاس مالي، وما راكمتموه من ديون عليه. وإعادة ولو جزء مما نهبتموه إلى خزينة الدولة.
الوقت الآن متاح لكم للخروج من كهوفكم الطائفية والمذهبية والزعائمية والمصلحية، بعد أن فشلتم في تشكيل حكومة، وأفشلتم المبادرة الفرنسية التي يبدو أنّ نفَسها كان قصيراً، وقد تكون أقرب إلى «رفع العتب» منها إلى الجدية لأنّ دولة عظمى كفرنسا كيف تقبل فشل مبادرتها، إذا لم تكن تتوقع ما حصل، خاصة أنها تعاطت مع الطبقة السياسية ذاتها المشكو منها واستدرجت إلى ملعبها، وتعرّضت للخسارة، لأنها لم تؤمّن خطوط الدعم الكافية للرئيس المكلف، الذي يتحمّل هو أيضاً مسؤولية الفشل والانسحاب والاعتذار عن التكليف، لأنه افتقر إلى أدنى مقومات القوة السياسية والعزيمة والإصرار على التشكيل، فضلاً عن جنوحه بإتجاه قوى وشخصيات سياسية معينة، فيما ظلّ على تباعد مع آخرين، على قاعدة التباعد الجسدي في زمن كورونا الذي يقضّ مضاجع اللبنانيين.
إنّ اعتذار الرئيس المكلف، كان معلوماً عند القريبين منه، والذين واكبوا حركته في التشاور مع جهة سياسية طائفية واحدة، ومتوقعاً من آخرين الذين بنوا توقعهم على ما تسرّب من لقائه مع الخليلين، ومع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مع أنّ البعض «الحربوق» تفاءل «بالمغلف» الذي كان يحمله الرئيس المكلف إلى القصر الجمهوري، واعتقد أنّ التشكيلة الحكومية في داخله وحان الوقت لصعود الدخان الأبيض الحكومي، من القصر الجمهوري، لكنه تحوّل إلى رماد أسود ليزيد في إطالة ليل سواد اللبنانيين.
اللافت في تكليف السفير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة، أنه منذ البداية كان بارداً ولم يثر حماس لا الشعب اللبناني ولا الطبقة السياسية، مع أنه كلف بقرار فرنسي وبعد زيارتين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان. ويبدو انّ الذين رسموا خارطة طريق التكليف والتأليف، أرادوا الوصول إلى محطة الاعتذار، واللجوء إلى شريط مسار مشاورات التشكيل، والشروط المنسّقة والمتنقلة المتبادلة، والعفة التي ظهرت فجأة من خلال إعلان بعض القوى السياسية عدم مشاركتها في الحكومة وتقديم التسهيلات الكلامية وفي المواقف السياسية، إضافة إلى محاولة خرق جدار التشكيل وفتح النافذة لها بمبادرة أطلقها الرئيس سعد الحريري، وكأنه بالاتفاق مع الجانب الفرنسي المتابع أرادا توجيه رسالة إيجابية لما هو آت، وقد حصل الإعتذار، وربما تسليف موقف للثنائي الشيعي، يمكن مبادلته في أحسن منه في المستقبل القريب، عندما تشخص الأنظار مجدّداً إلى تشكيل حكومة على الطراز التقليدي، وعلى شاكلة الحكومات السابقة، لأنه تعذر على الطبقة السياسية وحتى على فرنسا ورئيسها ماكرون تشكيل حكومة مهمة إصلاحية حقيقية.
طّويت صفحة السفير مصطفى أديب كما هو مخطط ومرسوم، وعاد لبنان إلى تجديد أزمته الحكومية وتداعياتها الاقتصادية والمالية والمعيشية والنقدية الكارثية إلى ما تحت الصفر، وإلى مزيد من الانزلاق والعودة من جديد إلى تشغيل محركات البحث والتمحيص عن شخصية لتكليفها، وإجراء استشارات نيابية ملزمة وغير ملزمة والدوران المكوكي من الاتصالات والمشاورات والحقائب وتوزيعها التحاصصي والطائفي والمذهبي، كل هذا «العلك» لن يؤدي سوى الى الفراغ والفوضى والمجاعة، وانتظار المبادرات والتفاهمات والتسويات الدولية والإقليمية ومدى تأثيرها على لبنان وحصته منها، وقد يطول وقتها كثيراً، وقد لا تأتي ابداً… و «ع الوعد يا كمّون».