مديح الظلّ العالي بين رمزيّة ياسر عرفات وسمير درويش
حمزة البشتاوي*
لم أكن أعرف شيئاً عن سمير درويش وأسرته وقريته وصداقاته واهتماماته الأدبية فكلّ ما أعرفه عنه هو عمله النضالي ووسامته وابتسامته المترافقة دوماً مع تحيّته لنا حين نراه.
ولم أكن أعرف شيئاً عن صلة القرابة والصداقة المتينة بينه وبين الشاعر محمود درويش إلى أن قرأت قصيدة «مديح الظلّ العالي» التي يحضر فيها سمير درويش كما يحضر ياسر عرفات بكامل رمزيّته السياسية والثورية في مسيرتنا الوطنية وفق رؤية الشاعر ولغته الثقافية والإبداعية المتألّقة وقد وصف الشاعر محمود درويش في «مديح الظل العالي» ياسر عرفات بسيد الكينونة المتحولة حين قال:
هي هجرة أخرى
فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما
سقط السقوط وأنت تعلو
فكرة
ويداً
و … شاما
لا برّ إلا ساعداك
لا بحرَ إلا الغامض الكحلي فيك
فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطواتك الحراما
واسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي حتى لا يعلقها وساما
واكسر ظلالك كلها كيلا يمدوها بساطاً أو ظلاماً.
ثم انتقل بكاميراه ولغته الشعرية في القصيدة نفسها من صورة القائد إلى صورة الأدب المقاوم التي يتناولها بمشهديّة ساحرة تمزج ما بين الإنساني والإبداعي ليكون سيد المشهد هو الفدائي الفلسطيني المقاتل وذو الظل العالي، وبهذه الصورة يحضر سمير درويش في قصيدة «مديح الظل العالي» حين قال عنه محمود درويش:
المدينة والقصيدة تخرجان
من خصر أجملنا، سمير درويش
ليحتفل المكان
بنا … وينسبنا إلى أحدٍ
ليعطي العائلة
شجراً وأسماء
أتعرف من أنا حتى تموت نيابة عني
ستمضي القافلة
جازاك ربك.. سوف تمضي القافلة
لا، ليس شعراً أن ترى قمراً ينقطُ خارطة
لا، ليس شعراً أن ترقب ذكرياتي الساقطة
فانهض على فرس الدخان
وارحل معي من أجل أمك.
وهذا الحضور لسمير درويش في القصيدة لا يستند فقط إلى صلة القرابة والصداقة بل إلى شخصية الفدائي في سمير درويش والذي كان يعتبره محمود درويش الممثل الشرعي للعائلة والقرية والمدينة في قواعد وأنفاق الفدائيين، حيث انتمى سمير درويش في مطلع شبابه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة بقيادة أمينها العام أحمد جبريل وكان سمير درويش قد أسر بتاريخ 7/5/1967 بسبب محاولته تنفيذ عملية فدائية في مدينة يافا وتحديداً نسف سينما رويال.
وقد كانت وسامته سبباً في اختياره لتنفيذ تلك العملية حيث لبس سمير درويش الجينز والقميص المفتوحة الأزرار ووضع على ظهره شنطة كان يخبئ بداخلها المتفجرات وراح يتجوّل في مدينة يافا مستطلعاً مكان تنفيذ العملية وكأنه سائح أوروبيّ إلى أن قبضت عليه قوات الاحتلال وبقي في الأسر حتى تحريره في 14/3/1979 بعملية النورس لتبادل الأسرى التي نفّذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة وبعد تحريره من الأسر أصبح عضواً في اللجنة المركزية للجبهة ورئيساً لتحرير مجلة إلى الأمام باللغة الإنكليزية، وكان مثقفاً دائم الحركة يتنقل في مهماته النضالية كالحمام والرصاص وكان صاحب ظهر من معدن لا ينكسر وكان مؤمناً بقدرته على كسر العدو الذي لم يستطع كسر أحلامه في الأسر، وحين بدء العدو بالاجتياح والغارات في 4/6/1982 وتحديداً قصف المدينة الرياضية في بيروت ترك سمير درويش مكتبه وقلمه وأوراقه وذهب إلى مكان القصف لإنقاذ الجرحى وليكون قريباً من المقاتلين وخلال عمليات الإنقاذ عادت الطائرات الحربية «الإسرائيلية» وقصفت المكان مرة أخرى بعد دقائق من الغارات الأولى، فأصيب سمير درويش إصابات خطيرة نقل إثرها إلى مستشفى البربير، حيث ذهبت إلى هناك ورأيت جسداً من دون الأطراف العلوية والأطراف السفلية ووجهاً ملفوفاً بالكامل بالشاش الأبيض. وهناك رأيت علي البيتم أبو أيهم الذي استشهد بعد أعوام، حيث أشار لي بيده هذا هو سمير درويش فلم أستطع البكاء أو فهم تلك اللحظة، ولكنني أصبحت أكثر يقيناً بأن سمير الفدائي والأسير والشهيد هو أجملنا، كما قال ابن عمه الشاعر محمود درويش والذي علاقته معه كانت مرتبطة بالعائلة والأرض والشهداء والمقاتلين والولادة والموت والبقاء والرحيل وحق العودة والهوية القلقة في زمن كان فيه ظل الفدائي عالياً، حيث كنا نسمع صراخ الرصاص ونقرأ الصحف والشعارات على الجدران.
*كاتب وإعلاميّ