«سرجون فايز كرم».. يجرّ نهر الكلام نحو مسراه.. فيينا!!..
طلال مرتضى*
تشاكلت علينا حكاية وصوله، ثمة من قال: رجل أحدب النوايا، ضلّ جهات جنونه دخل المدينة يسعى. وقال آخر: رأيت رجلاً يمتطي لسان الكلام، جاء يفضّ بكارة سكون مدينتنا الوادعة..
حارس حدود الضوء قال: ثمة رجل لا أشعث النوايا ولا أغبر الحواس، تزين ببردة راعٍ، يسوق قطيع الكلام نحو بساتين معنانا، بصراحة، واربتني الحقيقة ملامح لهجه، فلا هي بغربية ولا هي بشرقية، لكن تيه عينيه يقول: كل هذه الحكايات لي. ولأن العين مرمى الكلام قبل اللسان، وحدها امرأة عابرة للسرّ، خرجت من بحر اللغة مثل حواري الحلم المرصودة، لترتّب نقاط الحروف على نواصي حقيقة الحكاية، قالت: هذا الذي رأيتم، ابن رب الشعر العظيم وأمه القصيدة العصماء: أيها القوم المجانين، حصّنوا نساءكم وبنات أفكاركم كي لا يخلب سحره ألبابهنّ. اتركوه لي كي أطوّعه وأجعله مريداً، فأنا مذ رأيته تطهرت روحي وآمنت بأن إله الشعر قام.. حقاً قام.
الشاعرة السورية وئام فتال لم تستطع الوقوف على حياد الحكاية، لهذا جاءت لتدلي بدلو رؤيتها للغريب وتدحض كل ما تقدّم وما تأخّر عنه بقولها: «لم أسمع باسمه أبداً، قرأته يوماً في كتب التاريخ واستذكرت جدّه الأكادي العظيم منذ أيامٍ في عتيِّ الكلام.. ورث عنه أصالةَ المعنى وحداثة الأسلوب، الشعر، جبارٌ كأجدادنا..
يسمو، يعتنق العاصفة، ويعلمُ مداده شحذ الهمم، هو وكما تدّعي الأسطورة في ديوانه «سندس وسكين في حديقة الخليفة» نبي وله ميزة الأنبياء حين يرى في الغيب وإحدى رؤاه، «في حديقة باريسية علّقت أرملة وشاحاً ربيعياً على يد تمثال.. تقمّصه حبيبها سأل فرنسي أشقر عن محلٍ لبيع اللحم الحلال ورجل عربي عن دُكان لبيع الكحول أدركت الشرطة أفريقياً يبيع الحشيش ومراهقاً صبَّ زجاجة بيرة على ضريح سارتر وبال فوقه. ألقت عجوزٌ تسعينية «بقجة» بؤسها فوق كرسي حديدي بارد. غرست غجرية وردة في فنجان قهوتها وقبّل طيفي عاشقان..
هل صدقتم رؤياه؟.. نعم أنا صدقتها.. وأغمضتُ ما تبقى من لهفتي تمليحَ قصيدته لفتنةٍ أخرى، ومثل غجريةٍ لها قدمان حافيتان أجولُ شِعرهُ على وقع أهزوجتي العرجاء وأتصبّب على مدرَجِ الغواية شوقاً للمزيد، أناغي الشِعر في الصدِّ فيستميلني البوحُ بين جذرٍ ومدِّ .
«البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون» فيينا، وضمن برنامجه المعتاد أقام فعالية شعرية استضاف من خلالها الشاعر اللبناني سرجون كرم المقيم في ألمانيا. وعلى الرغم من القيود الجديدة التي فرضتها حكومة فيينا بسبب جائحة كورونا، الأجواء الممطرة إلا أن جمهور الشعر لم يتأخر..
رئيس اللجنة الأدبية في البيت العربي رحّبت بالضيف والحضور ثم قدّمت بدورها الشاعرة وئام فتال الشاعر والذي قرأ علينا ما فاض من نهر الكلام:
«أريد أن أموت خارج هذه الأرض
في مكان لست ضيفًا عليه
وعلى صهوة ملاكٍ
غدر بمارِدَي القبر لأنه يحبّني…
لا شيءَ كتابي…
مذ نصّبت نفسي خليفةً على نفسي
شرّش الكون على خدّيّ لحيةً حمراءَ
من خمرٍ ومن عسلٍ،
واعتلى جوادًا يقول لأخيه: جد لي امرأةً تنزع عن حَدْوَتي عذابي…
ودلّني على جنّة ٍلا قاربًا للنجاة فيها
ولا كلبَ دارٍ يتذكرّني حين أمرّ ليلة الميلاد بين بيوت أهلي…
أحدّق من كوّة شبابيكها
وأندم حين أراني داخلها أضيّع عمري على طريق سيتركني أصدقائي فوقه
أعدّ لهم النجومَ والخرافَ كي يناموا.
تعوّدتُ أنْ تَعُدّني النساءُ في مقاهي هذا الكوكبِ
وكلّهنّ يخَلنَ أنّهنّ رأينَني في مكانٍ مختلفٍ.
لا قبرَ لي في هذه الأرض…أبني فيه فُلكًا
من خشب الهيكلِ،
وآخذ معي من كلّ جنسٍ أنثاهُ».
ثم قرأ:
«الحبر الأعظم
اليوم مات…
ألقى عدّة الأرض جانبًا…
خلع أصابعه من يديه
وأطفأ بها شمعةً في الرمل
وأضاء
في شرقه الأعظم.
لم ألدْ لغتي ولم أتبنّ ما غزلت
ولكنّني ولدتُ اسمي
على شجيرة المرصاد.
ما اخترتُ نفسي ولكنّني
اخترتُ روحي
من محلّ الحياكة المجاور
في الذهاب والإياب.
اليوم مات…
ونفض إظفره مثل رصاصة تقشر ظهر الهواء
مثل طفل يقشّر موزة…
مثل فتاة تقشّر رمّانةً في المنام
قبل أن تصحو
وإذ نهدها يشتعل في العراء».
وتلا في خاتمة الكلام:
«لا شعْرَ إلا السحْرَ…
حين يخرجُ شْمُهورِش من الحائط
ويتركُ شعراء الإيروتيكا يبولون كالضباعِ على سيقانهم…
يقطع أذنابهم لكنْ… كي لا يرشّوا بها الكلامْ.
يجْعرُ في فضاء لا يُرى منه سوى صوتِ رعدٍ:
أفروديتُ أمّي وابنتي، أختي وزوجتي
من ثديها يرضع نبيّ العصمة سماءً
لا تراها بعينين في قفاكَ.
شْمُهورِش حين أنام
يريني البشرَ يقفز كالقردِ على حائط الشهوة…
ينهرني: قل لي بعدُ إنّ هذا الجنتلمانَ ربُّ فنٍّ.
شْمهورِش حين ينام
يغمزني بعين موشومةٍ على لسانه
ويسرُّ لي: المشكلةُ ليست في الغدّة الدرقيّة يا صديقي
المشكلةُ في بشرٍ منحرفٍ لن تغيّرَهُ.
يا حسرةً على عبادي،
أراكَ غدًا
والسلامْ.
أعدني طفلاً
اللهمّ أعدني طفلاً لأكتب
تاريخ الأمّة بـ»فنتورة» الصباح…
وأعود بعد قيامي مشعّث الشعر إلى حضن يشفع لي
لا أمام المخابراتِ
ولكن يومَ القيامة…
أعدني طفلاً
لأجلس على جرائد أبي
و»أشرشر» على حروف لا أفهمها
لعابي الممزوج شوكولاتة وبسكويتاً،
أصنع منها صواريخ ورقيّة
أطلقها – بل أبعثها– في الهواءْ.
ما همّي إن الأخوان فيها
– مسيحيّين كانا أم مسلمَين أم بوذيّين
أم قوميّين أم عروبيّين أم شيوعيّين أم ملحدَين–
اقتتلا أم لم يقتتلا
فكلاهما في النار
التي يوقدها للتوّ جدّي.
اللهمّ أعدني طفلاً
فعندي بضع كلمات بذيئة في خليقتك…
لأتحجّج أنّي تعلّمتها من ابن الجيران
فلا يطالني
لا عقابُ أبي
ولا عقابُكْ».