بسام رجا: وفي البدء كان المخيم!*
} مروان عبد العال**
في البدء كان المخيم. وذات سفر إلى تونس، كان اللقاء الأول بيننا. فلسطينيان يلتقيان في رحاب الفضاء، في الهواء وبين السحاب. حالت بيننا المسافات القاسية واستبداد الجغرافيا ودكتاتورية الحياة غير المألوفة، فوجدنا نفسينا في طائرة تحملنا على ذراعيها بين الغيوم المتقطعة وسط ازدحام الوجوه في جوفها الموحش. وربّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد. كنت قد قابلته عبر الهواء أيضاً، عبر الأثير في ذاك البث الإذاعي أو تلك المحطة التلفزيونيّة. التقينا صورة وصوتاً وفكرة ولكن قلّما جسداً. تابعته بشغف واقتفيت قلمه وغضبه ونظرته. وعندما نظرت في وجوه المسافرين ونحو النافذة، رأيت شخصاً مألوفاً كما وجهي، دلّني على نفسه بابتسامة، كأننا نتبادل التحية بكلمة واحدة «وجدتك»!
بعد تنسيق ذاتي سريع، وخارج النظام المتبع وأوامر المضيفات تجاورنا بالمقعد، وانفجر فينا جنون المخيم.
قلت: «اليرموك» يا رفيق بسام.
قال: «نهر البارد» يا رفيق.
وعلى مدار ساعات الرحلة التي جمعتنا معاً لحضور «مؤتمر المنتدى الدولي للعدالة من أجل فلسطين»، أوغلنا الكلام في أنين الجرح وعزفنا سمفونية النكبات المتجددة. تصورنا المخيم معلقاً في قفصٍ طائر، وتساءلنا من يختطف الآخر؟ المخيم اختطفنا، صرنا رهينته حباً وطواعية. هو المنفى الذي يقيدنا. بطعم وجع اليرموك الطازج، تحدثنا عن خبث الاستراتيجيات الجديدة لتصفية قضية اللاجئين بأدوات إرهابية مشبوهة، ولكن بسياسات واعية من جهات متعددة، تخدم العدو وتسعى إلى تدمير الحق عبر تمزيق روح المكان ووضع اللاجئ أمام حلول قسرية وفردية واندماجية، ولجوء مكرر، وغربة تُغَرّب فلسطين عن أحبابها.
ولما كان الفخ هو في تفكيك الغزاة لأنسجة الأمة بكل مكوناتها، كما يجري في سورية، تناظرنا في كيف يبقى لنا مكان بصيغة موحدة تتّصل بروح واحدة وثقافة جامعة. بدأنا الحديث متموجاً ثم متجانساً، عن الحرب وساعتها، لنصل إلى سؤال «اللامتوقَّع»، وكيف يحدث هذا اللامتوقَّع؟ وعلى الرغم من اجتثاث مخيّمات عدّة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، رددت كثيراً عبارة «لم أكن أتوقع» عن تدمير مخيم نهر البارد وذلك بمحض ميزات وأسباب عدة تخص المكانة والمسافة والمحيط وغيرها. ولم يتوقع بسام تدمير مخيم اليرموك، عاصمة اللاجئين في حضن دمشق الدافئ والشام ذات السيف الذي لم يهِن. وهكذا جمعنا حدوث وحديث اللامتوقع.
وكما سمَّى أبو العلاء المعري نفسه «رهين المحبسين» للزوم منزله، صرنا «رهين المخيمين»، نلزم المخيم ونلزمه بالأمل. الأمل هو في نسخة طبق الأصل عن المخيم، حتى إن اختلف المكان لا يختلف الاتجاه. سقط المخيمان باليد السوداء الشيطانية ذاتها، رغبة في قتل هويته المفترضة كحاضنة لنسيج اجتماعي فلسطيني ومكان لمجتمع افتقد المكان الأصلي وحوّل المكان من ركيزة اضطرارية إلى وعاء يعيد تشكيل صورة وهوية اللاجئ الفلسطيني ومكانته بأشكال متجدّدة. عبر سنوات النكبة، حمل كل منا فيه نسخة مفترضة عن بلدته لننسج فيه ومنه شبكة علاقات وتقاليد وعادات وذكريات وأحلام مشتركة.
انتقلنا للحديث عن سلاح الثقافة والإعلام والأدب، في الرواية والقصة والشعر، والتي كانت بدايته أيضاً هي المخيم، فحضر بيننا محمود درويش ليقول: «حين يبتسم المخيَمُ تعبس المدن الكبيرة». ومن اليرموك إلى نهر البارد إلى عين الحلوة مروراً بصبرا وشاتيلا وتل الزعتر، هو ذا المخيم الشاهد الحي على النكبة؛ نالت منه عمليات القتل المتسلسل لتجرّده من هويته وناسه وروحه، كي تصبح العودة مستحيلة وفلسطين منسيّة. ولأن الذاكرة مقاومة والحلم مقاومة، لن يخنق الحق كل المسميات المخترعة التي تشكّلت عبر سنوات النكبة.
هو ذا بسام العاشق الذي ترك نبضه في المخيم. بسام المبدع جداً، واللاجئ جداً، والغريب جداً، والحالم جداً، والإنسان جداً، والمقاوم جداً. بسام الذي طارد ظل الغريب وسابقه على طرق رملية حارقة ومتعرجة عبر تضاريس الروح ومعالم التكوين. بسام ابن الغربة المتكرّرة، الذي لا يبدو لي غريباً. يشبه حكايات المخيم. يدهشني لفرط ما يشبه فلسطينه وسوريته وعروبته. صرت أكثر مقدرة على تفسير نظراته الموغلة بالوجع وعلى سبر سر ابتسامته الأقوى من تفاصيل الغربة. استمرت صلة الروح والكلمة والخبر والمقابلة والتصريح. ندور من تونس إلى بيروت إلى دمشق ونتصادف على عجل وظللنا معاً رهينة المخيم في دائرة الوعد إلى لقاء قريب منتظر علّه يأتي.
قدرنا أن نودعك لنعرفك أكثر، لنسمع دوي صرختك في وجه المنفى القهري. نودعك ونحن نحتاجك أكثر.. نحتاجك كما الذاكرة الأصيلة العصيّة على التزوير. تردد فينا كصوت الحق في زمن التيه العربي الكبير وموسم التطبيع والحجيج نحو الصهينة. ما أحوجنا إليك لتحمي الرواية من التدليس وفكرة فلسطين غير القابلة للإلغاء. ونشتاقك لتلقي علينا تحية «صباح بلا غزاة ولو كره الغُزاة».
عودٌ على بدء. أرسل لي بسام مؤخراً مقابلة أجريت معه على شاشة التلفزيون السوري في برنامج استوديو الحدث وذيلها حرفياً: «في الدقيقة ٤٥ و٤٠ ثانية، اسمع ما قلته عن مخيم اليرموك!». نعم، كان بسام رجا الصوت الأول الذي حذّر من الثغرات في المخطط المدنيّ لإعادة إعمار المخيم.
فيا صديقي بسام، ترجّلت فاستعجلت فأوجعت، ولكن أحلامك باقية تتجذر في القلب.
*مقال في تأبين القيادي الفلسطيني المقاوم
الدكتور بسام رجا الذي ترجّل بالوفاة صباح أول أمس في دمشق
**روائي وقيادي فلسطيني