ديوان «ومضة».. اقتصاد في اللغة واتساع في الرؤى
د.عبدالله الشاهر*
تشكّل اللغة في ديوان «ومضة» للشاعر المرحوم أمين الديب مؤسس الأدب الوجيز المرتكز الأساس الذي يكتسب فيه بناء ومضته وجوداً واقعياً إذ تبدو اللغة في ديوانه ليست أداة اتصال وإنما أداة إنتاج تمتلك خطورتها بذاتها لتسمو بشعريّتها التي تكون تأشيرة دخول لها إلى دائرة الإدهاش؛ والإدهاش أحد أهم خصائص الومضة…
فما هي المرتكزات اللغوية التي استند إليها الشاعر في بناء معماره «ومضة» والتي أتاحت له أن يحقق عمقاً واتساعاً في آن معاً؟…
والحقيقة أن أوّل هذه المرتكزات أن الشاعر أعتمد على شعرية الإيجاز والتكثيف سواء من خلال الصوغ أو من خلال التركيز واستخدم آليات التكثيف والتحويل والترميز وانتهك بهذه اللغة الحدود بين الواقع والمتخيل.
يقول الشاعر في الصفحة 47 من ديوانه ومضة:
في المقلب الآخر
لغة تنسج كينونتها
الصمت
ستارة الكلام الحميم
الزمن انزياح
استعمال مغاير للغة
في هذه الومضة يتجلى البعد الإيحائي للغة أكثر من البعد التواصلي وذلك بتغليب البعد الاستعاري والانزياحي على البعد الكنائي في اللغة…
المرتكز الثاني الذي يتمثل في شعرية التكثيف من خلال تشبيهات واستعارات ورموز تحول الانتباه عن المعتاد وتخلق انزياحاً يدعو إلى الانشغال بالصورة والرموز ما يحيل هذه الومضة إلى قراءة لا تتسم بالسهولة المألوفة… يقول الشاعر في الصفحة (9) من الديوان:
اِخلع وجوهك
تحرر
عسس اللغة تخذلك
لا يرتشد المعنى لتقواك
على ضفاف مقتولة
في هذه الومضة نجد الشاعر يحوّل الانتباه عن السائد المعتاد ليلفت المتلقي إلى قراءة غير متوقعة،
اخلع وجوهك – خلع نعليك فإنك بالوادي المقدس طوى
عسس اللغة تخذلك – عسس السلطة تخذلك
لا يرتشد المعنى لتقواك – ما يرشد إليه الحديث
المرتكز الثالث في ومضة الشاعر ممكنات الحذف والإضمار والقدرة على توظيفها كبعد تأويلي يشكل طبقة أخرى لمعنى الحذف كآلية مهيمنة لتشكيل حكائية للنص داخل النص عوضاً عن الشكل الخارجي…
يقول الشاعر في الصفحة (63) من ديوانه ومضة:
المسافة بين عشقين
زمن يتكاثف
يكتمل الكون بقبلة
الآخرون لغة عمياء
وفي هذا اعتمد الشاعر على رمزية اللغة في إحداث حالة من اللاتوازن في لغة النص لإحالة المتلقي إلى قراءات تأويليّة عدة…
المرتكز الرابع امتلاك القدرة اللغوية على انفتاح الرؤى، واختلاف طرائق التعبير إذ إنه كان يبحث في الكشف عن المختلف أو المتغير من خلال نزوعه الدائم إلى التجدد والتفرد… يقول الشاعر في الصفحة (8) من ديوانه ومضة:
الماء نقي
لا ملح في الغيم
النهر قطيع عائد
امرأة التبس حيضها
هذه الومضة مكوّنة من عشر كلمات، لكنها أعطتنا عمقاً وسعة وارتدادات وتشظّيات واسعة الطيف نلحظ فيها:
- أن الماء أصل النقاء وأصل الروح «وجعلنا من الماء كل شيء حيّ» الماء نقي.
- نحن ملوثون ببشريتنا وليس في أصلنا، فالملوحة بالأرض «لا ملح في الغيم».
- نحن محكومون بعقلية القطيع الذي هو كالنهر الجارف لكل الخطايا «النهر قطيع عائد».
- هاجس الريبة وعدم اليقين، وضبابية الرؤيا ولادات واعدة. فالمستقبل عندنا ملتبس «امرأة التبس حيضها».
المرتكز الخامس القدرة على تجاوز التقليدية دون إلغاء لثوابت اللغة، فهو شاعر يستغرق في الحالة النفسية من خلال تنامٍ موظف يلتقط فيه اللحظة والدهشة والقفلة من خلال مصالحة بين لغته وأفكاره…
يقول الشاعر في الصفحة (40) من ديوانه ومضة:
المشاعر تسكن الرياح
لولا المواسم المزاجية
لاستكانت كقصيدة في
بحورها الراكدة
فاللغة هنا لم تأت عن مجرد التفكير في المعنى ولكنها استحوذت على عواطف الشاعر ومشاعره وذهنه حتى وصل إلى هذه التركيبة…
والحقيقة أن الشاعر المرحوم أمين الديب كان مسكوناً بهواجس عوالم لا تنتهي، لذلك نجد أن الجملة الشعرية لديه تهيم بين الواقع واللاواقع، بين الوعي واللاوعي. وهذا ما جعل لغته الوامضة مفاجئة للمتلقي، فيها من الإدهاش بقدر ما فيها من المغامرة، وفيها من الحب بقدر ما فيها من المأساة، وفيها من الحلم بقدر ما فيها من الوهم، وفيها من التكثيف بقدر ما فيها من الاتساع…
يقول الشاعر في الصفحة (42) من الديوان:
الشتاء
امرأة تستحم
إنه عالم التضاد الذي يزخر بالمولدات وهذا ما جعل نص ومضاته ينبض بالحياة لقدرته على حمل دلالات كثيرة يمكن قراءتها بأوجه متعددة…
أمين الديب إذا أردت أن تدخل عالمه فإن عليك أن تستعدّ للدخول في متاهة من الصور والأشكال والأفكار…
أن تستعدّ للدخول في عجائب النص الوامض الذي يجعلك أسير خيال يمتد نحو مساحات من الطبيعة والجمال والحب والفكر والأنوثة، والمأساة والحنين والرغبة والإشباع…
يقول الشاعر في الصفحة (66) من ديوانه:
تعرّي
كي يدخل الضوء
إلى روحي المظلمة
قالت الستائر
كثيرة هي الأفكار التي طرحها الشاعر في ديوانه «ومضة» وكثيفة جريئة هي اللغة التي صاغ بها هذا الديوان ولكي لا أطيل سأختم بومضة شاهقة العمق سحيقة الاتساع…
يقول الشاعر في الصفحة (100) من ديوانه:
كأيةٍ محدودةٍ
تحتملين الانبعاث
كلّما راودتك حروفي.
*ناقد سوريّ