مخطّط جديد اسمه “الإبراهيمية”
} لواء العريضي
لو كتب أحد عام 1900 عن مخطط الصهيونية وبناء بلد “قومي” لليهود لكان اتّهم بالهرطقة والتآمر. ولو قال أحد إنّ العالم يتجه نحو العولمة وإنّ البعض يخطط لحكومة عالمية واحدة تتحكّم بمصير الشعوب لكان مصيره مستشفى المجانين. دائماً نعرف تفاصيل ما يُحاك لنا عند فوات الأوان وبدء التنفيذ الفعلي على الأرض. فمثلاً لم نصدّق المؤامرة على فلسطين إلّا بعد عقودٍ من تاريخ وضع المخطط وبدء الهجرة اليهودية إليها. فنحن نعيش تخبطاً يضمن تآمر الخارج علينا دون أن ندرك، فلا نرى ما الآتي إلّا بعد فوات الأوان.
سنتحدّث عن فكرة “ديانة جديدة” تلاقي الاهتمام المتزايد في مطبخ الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى لفرضها كحلٍّ دائمٍ لـ “السلام” في “الشرق الأوسط الجديد” الذي أصبح على مشارف الانتهاء بالنسبة لطبّاخيه.
نعلم أنّ الديانات السماوية تعود بنسلها للنبي “ابراهيم أب الأنبياء”، والخلافات الأساسية بين الأديان قليلٌ منها يقع على الأحداث التاريخية التي تلت سفر هذا النبي وأغلبها يتبلور بعد ولادة السيد المسيح والدعوة المحمدية. لذلك من “أب الأنبياء” أتت فكرة “الإبراهيمية”.
بدأت تتبلور فكرة “الإبراهيمية” منذ حوالي ثلاثين عاماً في الولايات المتحدة الأميركية، ولكنّها اتُّخِذَت على محمل الجدّ في العام 2013. للإبراهيمية مفهوم سياسي ينطلق من منطق ديني، تستخدم النبي ابراهيم كونه “أب الأنبياء” كالجذر الشائع في حلّ الخلافات عبر القيَم الروحية الخيّرة المشتركة بين الأديان والذي تذوب فيه العداوات وتنصهر. إذا توقفنا عند هذا الحدّ تبدو الفكرة جميلة تطرح سلاماً أراق الكثير من الدماء، منمّقة بمفردات رنّانة تشدّ القارئ.
لكن علينا الغوص بالتفاصيل لفهم أهداف هذا المشروع. فالإبراهيمية تعطي القدسيّة لكلّ ما هو مشترك بين الأديان الثلاثة فقط. فيُتَرجَم على الأرض بإعطاء الحقوق المقدسة لنسل النبي ابراهيم كما يُتّفق عليه بين المجتمعين من علماء الدين والسياسيين.
بمعنى آخر، إعادة تأويل النص الديني المكتوب لاستشفاف ما هو مشترك بين الأديان! وكما نعلم أنّ المسيحية تحتضن التوراة بتسمية “العهد القديم” والإسلام المحمدي يعترف بكليهما في القرآن الكريم، فإذا عكسنا التسلسل نرى أنّ التوراة لا يعترف بالكتابين المقدّسين الآخرين. لذلك ما هو مشترك بينهم بأعلى نسبة هو “العهد القديم” أو “التوراة”. وكلّ ما هو مشترك سيحظى بالقدسية في كتاب ديني جديد يسقِط قدسية الكتب السابقة. أيّ أنه لا قدسية للعهد الجديد أيّ الإنجيل المقدّس ولا قدسية للقرآن الكريم، بل كتاب جديد بطبعة جديدة يحمل التعاليم الدينية والسيرة النبوية لنسل ابراهيم يحظى بالقدسية التامة المنفردة. وكلّ من لا يعترف بالكتاب الجديد لن يعيش في الدولة الإبراهيمية التي يطمحون إلى إنشائها. طبعاً هناك آلية للاتفاق على كلّ ما هو مشترك يتحدثون عنها بالتفاصيل، لكننا لن نغوص فيها كي لا نطيل المقال أكثر.
لا يتوقف هدف “الإبراهيمية” عند تجميع القواسم المشتركة بين الأديان السماوية، بل يتعداها لترجمتها على الخريطة السياسية بحجّة “السلام الشامل” في الشرق الأوسط. وظهرت دراسات لجامعات أميركية تحدّد حدود الدولة الإبراهيمية بمسار رحلات “أبي الأنبياء” أيّ أنّ المسار الابراهيمي هو حدود الدولة المزعومة التي شاء القدر أن تكون هي ذاتها حدود “إسرائيل التاريخية” التي تتجسّد بعَلَمها!
“للمصادفة” وصف دونالد ترامب اتفاق التطبيع بين الإمارات و”اسرائيل” بالاتفاق “الإبراهيمي” علماً أنّ الاتفاقيات والمعاهدات السياسية يرتبط اسمها باسم المنطقة أو المدينة التي يُعقَدُ بها الاجتماع مثل لوزان، سان ريمون، كامب دايفيد، فيينا… انما ترامب ومَن خلفه أصرّوا على كلمة “الإبراهيمي”. إنّ هذا التطبيع فيه أهداف خفيّة لا تقلّ شأناً عن الخطر الاقتصادي المتجسّد بتسويق البضائع الإسرائيلية في السوق الخليجية وتقوية السياحة في الأراضي المحتلة ومدّ أنابيب النفط إلى أوروبا، ناهيك عن خيانة القضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها. فالهدف الخفيّ الذي أغفله الجميع هو في عنوان الاتفاقية أيّ “السلام”، فلم يكن هناك حرب بين الطرفين أصلاً لإدراج كلمة السلام لولا أنّ معناه في نظرهم “السلام الشامل” الذي يكون عبر التسويق للإبراهيمية التي يظنّون أنها سترضي شعوب المنطقة رغم بئسها.
من هنا يمكن للمتابع أن يستنتج سبب استدعاء الإمارات لعلماء دين مسلمين في كلّ حين إلى أراضيها من مختلف الدول العربية. كذلك مبادرتها لتشييد صرح عمراني عملاق اسمه “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبو ظبي يهدف إلى جمع الأديان الثلاثة في مجمع مشترك ليكون عنواناً “للتسامح الديني” كما يزعمون.
لا نقف عند هذا الحدّ، فمنظمة الأونروا عمدت تسمية القدس “بالمدينة الابراهيمية” واستبدال عبارة “القدس عاصمة الدولة الفلسطينية” بعبارة “القدس هي مدينة مقدسة لكلّ الديانات الإبراهيمية” في منهج المدارس التي ترعاها في فلسطين عام 2017 والتي واجهها تصدّ شعبي كبير لإسقاطها. كما تمّ إنشاء منظمات وجمعيات تُعنى بهذا الموضوع إنْ كانت NGO أو غيرها أبرزها “دائرة تعاون لمّ الشمل الابراهيمي” التي تأسّست في أيلول/ سبتمبر 2006 وما زالت تقوم بنشاطاتها في مختلف البلدان. آخرها كان صلاة جماعية لإبعاد شر وباء كورونا عن البشرية.
إنّ ضمان استمرار وجود الكيان الغاصب لا يقضى بإبرام معاهدات سلام مع الحكومات المطبّعة ولا الاكتفاء الاقتصادي فقط، بل يتعدّاهما لتغيير ثقافة شعب المنطقة إنْ كان من المنحى الديني أو القومي عبر رسم سياسات استراتيجية تنبذ الهوية الوطنية وتفكّك الرابط التاريخي بين السكّان أنفسهم وبينهم وبين الأرض. فستأتي الابراهيمية بدسائس دينية ومغريات كثيرة اقتصادية وسياسية تقنع الجميع أنها الخلاص الوحيد.
أخيراً، نحن كالعادة أمام مخطط استراتيجي طويل الأمد يبدو للوهلة الأولى أنه ذو أهداف إنسانية سامية، إلا أنه يحمل فى طياته أهداف صهيونية “تقدّمية” لمرحلة تثبيت وضمان استمرارية “اسرائيل” وأمنها لأطول وقت ممكن. فيضمنون تفوّقها اقتصاديّاً وتكنولوجياً على دول المنطقة متّكئين على “الحجّة التاريخية” التي يضمرونها منذ قرون. وما زالوا يزوّرون ويكذبون ويخدعون ولن يكلّوا حتى يصبح ما اخترعوه حقيقة.
لا داعي للاستخفاف بأيّ مخطط غربي لأنّ الاستخفاف كان سمة أجدادنا يوم خسرنا فلسطين. كما أنّ رهان الغرب على طاعة بعض أعضاء المؤسّسات الدينية لزرع الفكرة اشتدّ عصبه اليوم أكثر حيث نرى مكر بعض رجال الدين، وتمايلهم المثير مع السياسيين الفاسدين الذي أصبح عادة. فإطلاق الفتاوى والفتن يتطلّب رجل دين واحد “متهوّر”، وإخمادها يستلزم مئة عاقل. ويا ويلنا من الدين والسياسة عندما يصبحان وجهان لعملة واحدة…!