ماكرون زرع العاصفة وحصد الريح… والمبادرة أصبحت فعلاً ماضياً
} علي بدر الدين
رفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من منسوب مواقفه السياسية، وصبّ فائض غضبه على الطبقة السياسية في لبنان، في سابقة لم تحصل من قبل، وإنْ حدث مثلها كان على مستوى أفراد، وربما تكرّرت أكثر من مرة، لكن أن يقدم رئيس دولة عظمى ومؤثرة في العالم كفرنسا على إهانة طبقة سياسية في دولة أخرى على الملأ، وعلى مرأى ومسمع من العالم، فهذا تصرّف غريب وغير مسبوق في العلاقات الدولية. ربما يدلّ على حجم “مونة” الرئيس ماكرون على بعض السياسيين اللبنانيين، ومدى “حرصه” على لبنان، والأهمية الكبيرة التي كان يعلّقها على نجاح المبادرة الفرنسية التي تبدأ بتشكيل الحكومة وتنتهي بمردودها على مصالح فرنسا في لبنان والمنطقة.
إنّ ما شجع ماكرون على إطلاق مواقفه النارية، الحارقة واللاذعة واتهام البعض بأنهم خونة وعدم الوفاء بالوعد، نجاحه في “بروفة” لقاء قصر الصنوبر مع هؤلاء السياسيين، والتعامل معهم على طريقة الأستاذ والتلميذ وإعطاء الأوامر والتوجيهات، من دون أن يقابل بردّ فعل معظمهم كأنّ على رؤوسهم الطير، لأنهم لا يتجرأون سوى على الشعب المسكين، ولأنّ سجلهم السياسي لا يشرّف.
يبدو انّ ماكرون تعامل مع أغلبهم على قاعدة “لكلّ مقام مقال”، خاصة أنه كان متيقنا أنّ مسار الأمور سيسلك وفق ماهو مرسوم له بدقة، كنه فوجئ بالتعقيدات التي واجهت تشكيل الحكومة، ما دفع بالرئيس المكلف إلى الانسحاب من المهمة والاعتذار، الأمر الذي ما شكل لفرنسا ورئيسها خيبة أمل كبيرة غير متوقعة، خاصة أنّ ماكرون زار لبنان مرتين ووعد بثالثة ربما للاحتفال بنجاح تشكيل الحكومة والمباشرة بتنفيذ بنود المبادرة الفرنسية وفي مقدّمها الإصلاح والعودة إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وغيره ذلك، لكن هذه الآمال والوعود تبخرت، وطارت معها الأحلام اللبنانية والفرنسية وكأنّ عيناً أصابتها وقلبت المشهد رأسا على عقب.
هذا كان كافياً للغضب الفرنسي الساطع واللاذع ومن الرئيس ماكرون بالذات باعتباره “خبط” على صدره بثقة ومهابة الواثق بنفسه وبالطبقة السياسية اللبنانية.
ويبدو أنه عندما قرّر زيارة لبنان، بعد إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، عادت به الذاكرة والذكريات إلى الحقبة التاريخية التي كان فيها حاكم لبنان مفوضاً سامياً فرنسياً، يأمر ويُطاع وهو صاحب السلطة المطلقة والقرار، يفعل ما يشاء من دون اعتراض من أحد، وهكذا اعتقد، وراهن على أنّ النظام السياسي الطائفي والمذهبي التي كانت فرنسا شريكة في صناعته وفرضه على اللبنانيين، وإبداء “حرصها” الدائم على لبنان الذي توّج بوصفها “الأمّ الحنون” له.
في الواقع نجح ماكرون في جمع كلّ المكونات السياسية الموالية والمعارضة والقلة الوسطية في قصر الصنوبر، بعد تباعد سياسي فرضته المصالح والتحاصص والأجندات والارتهانات، ثم جاءت جائحة كورونا كذريعة إضافية للتباعد، من دون أن تؤثر سلباً على استمرارهم في ممارسة هوايتهم المشتركة المفضلة في تقاسم الحصص وتكديس الأموال وانتهاج سياسة الإهمال والحرمان والفساد وإفقار الناس وتجويعهم. وحده استطاع لمّ شمل الجميع من دون أن يتخلف أحد عن تلبية الدعوة الفرنسية، وهي من الفرص النادرة التي يلتقي فيها هؤلاء في غرفة واحدة، وعلى طاولة واحدة، وأن يصغوا إلى كلّ كلمة يلقيها ماكرون وكأنه في مؤتمر صحافي، والسياسيون تحولوا إلى صحافيين، لا يحقّ لهم توجيه الأسئلة إلا في آخر المؤتمر.
هذا المناخ السياسي الهادئ جداً هو الذي حفز بل شجع ماكرون على إطلاق مواقفه في زيارته الثانية، لاعتقاده بأنّ الحاضرين من السياسيين وفي لحظة تجلّ، وهم تحت عينه قد انقلبوا على أنفسهم وعلى سياستهم التي اعتمدوها وكانت سبب خراب لبنان وحضوره اليه، فتجرأ ورمى لهم الطعم بصنارة مطالب وشروط سياسية تبدأ بسرعة التكليف وهذا ما حصل. والاستفادة من هذا المؤشر الإيجابي لسرعة تأليف الحكومة ضمن مهلة الأسبوعين، ولكن هذا لم يحصل، رغم تمديد المهلة لمرتين متتاليتين، ولم يصدّق الرئيس الفرنسي أنه خسر الرهان على الطبقة السياسية، ولم يفده توسيع مروحة اتصالاته ومشاوراته وطلب الدعم والمؤازرة المحلية والإقليمية والدولية، لإزالة العراقيل والعقد والشروط التي تعيق تشكيل الحكومة.
على العكس تماماً فكلما ضعفت المبادرة الفرنسية، كثر السلاخون والشماتون وتفاقمت المشاكل في وجه التشكيل. أكثر من ذلك، عجلت بهبوط معنويات الرئيس المكلف السفير مصطفى أديب ويأسه وإحباطه، وعجز المبادرة ومن خلفها عن الوصول إلى الخاتمة الإيجابية المطلوبة، وانعدام توفر مقومات فكفكة العقد، ولو اقتضى الأمر تمديد المهلة.
وقد ضاق الخناق على المبادرة حتى قطع النفس، وكان قرار انسحاب المكلف من استكمال مهمته الشاقة والاعتذار، ثم المغادرة على عجل إلى مقرّ عمله الديبلوماسي كسفير للبنان في ألمانيا.
هذه الوقائع التي واكبت زيارة ماكرون الثانية وتوّجت بالمبادرة التي كان يعوّل على نتائجها كثيراً، والتي ستساهم في إعادة تموضع سياسي فرنسي في لبنان والمحيط، ويظهر مدى قدرتها التأثيرية على الطبقة السياسية العصية على أيّ تفاهم أو حوار أو اتفاق، إلا ما يخدم مصالحها وخاصة عدم دفعها لمغادرة السلطة وتخليها عن الإمساك والسيطرة على مقدرات الدولة الإقتصادية والمالية. ولا يمكن أن تلتزم تنفيذ بنود المبادرة الفرنسية التي تريد إبعادها عن السلطة والنفوذ، ولا خيار أمامها سوى عرقلة أهمّ بنودها وأساسها هو تشكيل الحكومة، ما يؤدي تلقائياً إلى إفشال المبادرة بكلّ تفاصيلها.
وهذا ما شكل صدمة سلبية من عيار ثقيل لفرنسا ورئيسها لم تكن واردة أو متوقعة بالنسبة للجميع، وأنتج غضباً بحجم الصدمة، وإطلاق مواقف سياسية حادة، وتهديداً بكشف أسرار الفاسدين من السياسيين، أقله عن الأموال المنهوبة والمهربة المخبّأة في المصارف الفرنسية والقريبة منها.
أخطأ أو قصد ما قاله في مؤتمره الصحافي بعد فشل المبادرة واعتذار أديب، حيث وسع “بيكار” مواقفه واتهاماته لتشمل الجميع من دون أن يفرّق بين الذي دافع عن لبنان وشعبه وسيادته، وقدّم التضحيات الجسام، وحمى لبنان وصانه من الهجمة الإرهابية الشرسة التي تعرّض لها، وبين قوى سياسية فاسدة ومستبدّة ومتسلطة وهي التي ما زالت تغرق البلد بالمفاسد، ولا تريد حكومة ولا إصلاحا ولا وطناً ولا دولة ولا مؤسسات فاعلة وعادلة.
أخطأ ماكرون عندما راهن على الطبقة السياسية، واعتقد أنها بوابة خلاص لبنان والمؤتمنة على مصالح فرنسا، مع أنه يعلم وإدارته الكثير عن هذه الطبقة التي لا تزال لتاريخه تتناتش على الحقائب الوزارية والمصالح والتحاصص في كلّ صغيرة وكبيرة، وهي على استعداد لإشعال البلد إذا ما حاول أحد أو تجرأ على نزع امتيازاتها ومكتسباتها والسلطة منها أو استبدالها بآخرين حتى لو كانوا من “لحمها ودمها” وأقرب المقرّبين إليها، ان كان يدري الرئيس ماكرون أو لا يدري فإنه “زرع العاصفة وحصد الريح”، ولا أعتقد انه سيصدّق إصرار السلطة والقوى السياسية بادّعائها في حب فرنسا، وأنها رغم فشل المبادرة وإسقاطها بالضربة القاضية من الجولة الأولى، مازالت تصدح بأعلى اصواتها انها مع المبادرة التي أفشلتها وموتتها وشاركت في دفنها.
كفى الترويج والتسويق للمبادرة، لأنها أصبحت فعلا ماضيا وفي خبر كان، والمهلة التي أعلن عنها ماكرون تتزامن مع توقيت الانتخابات الرئاسية الاميركية، وأياً كان إسم الرئيس المجدّد له أو المنتخب، ماذا سيقدّم للبنان سوى استمرار الحصار الاقتصادي والسياسي والعقوبات والضغوط، وكله في سياق المحاولات المستمرة من أجل تركيع لبنان وجرّه إلى المحور الاميركي وإملاءاته ومصالحه التي تخدم الكيان الصهيوني…!