مات الملك عاشت الأمة…
د. سمير صباغ
في مثل هذا اليوم منذ خمسين سنة مات جمال عبد الناصر ملك العروبة وباعث التيار القومي العربي.
عاشت الأمة هنيهات من الزمن على هدي أفكاره ونهجه بتحديد أعداء الأمة ثلاثة: الإستعمار والصهيونية والرجعية العربية والأحكام التي تحدّد مسارها في لاءات ثلاثة لا للمفاوضات مع “إسرائيل” ولا للإعتراف بها ولا للصلح معها. ولكن خلفاءه تجاهلوها وخالفوها وساروا في نهج بعيد عنها أوصلهم إلى كامب دافيد ووادي عربة واليوم إلى مسيرة التطبيع التي بلغت حدّ ابتلاع “إسرائيل” الأرض والحقوق الفلسطينية.
منذ أن وعى جمال عبد الناصر الدنيا وجد أنّ بلاده تعاني من الظلم كثيراً بسبب تخلف المجتمع جراء حكام فاسدين، فأيقن أنّ من واجب الشباب النضال من أجل التقدّم ومن أجل كرامة شعبه. وفي ريعان شبابه أدرك أنّ مصائب البلاد تعود إلى مستعمر ظالم وحكم رجعي ولا يمكن لها أن تستمرّ في هذا الواقع.
دخل فلسطين مع الجيش المصري والجيوش العربية وتعجّب لما رأى أنّ قائد هذه القوات العربية قائد إنكليزي فيما يعاني شعب فلسطين من تآمر الإنكليز مع العصابات الصهيونية.
في الفالوجة حوصر جمال وفهم أنّ في القاهرة نظام مسؤول عن هزيمته إذ لم يرسل له إلا سلاحاً عادياً لا يواجه به سلاح العدو اليهودي، وأنّ فلسطين يجب أن تكون هي بوصلة العرب، وأنّ الخلاص من هذا النهج الذي تسير عليه بلاده مصر هو النهج الذي أدى إلى هزيمة الجيش المصري، وصمّم على تفجير ثورة تقلب الأوضاع رأسا على عقب.
منذ عام 1952 حدّدت الثورة أعداءها وسارت قدماً في النضال من أجل مواجهة مخططات أعدائها. فقضى على الجوع والفقر واستعاد الأموال المصرية المنهوبة عبر تأميم قناة السويس وعبر بناء السد العالي وتوجه لتحرير أمته وتحقيق وحدتها، وهذا ما حصل إذ تحرّرت معظم الدول العربية المستعمرة من الإنكليز والفرنسيين وتوحدت مصر وسورية في أول وحدة عربية في العصر الحديث وقلبت الأوضاع في العراق وثار الخليج وحجم دور السعودية وساد التيار القومي العربي في كلّ الوطن من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
وفي مثل هذا اليوم من عام 1961 وقع الانفصال المجرم الذي هز وجدان الأمة التي تتطلع إلى وحدة عربية شاملة وأنزل جرح كبير في نفسية جمال عبد الناصر. وفي عام 1967 تكالبت عليه قوى إسرائيلية مدعومة أميركياً وأنزلت بمعظم الجيوش العربية هزيمة نكراء أثرت كثيراً في وجدانه بحيث قال فيها حسين الشافعي إنّ عبد الناصر مات عام 1967 وأعلنت وفاته عام 1970.
وبحجة وبستار “الربيع العربي” تمكنت أميركا من اللجوء إلى تيارات إسلاموية لدحر التيار القومي العربي وتفرض على الأمة مشروعاً مشبوهاً يقسّم البلاد العربية ويجعل من “إسرائيل” قائدة له ويملي إملاءاته على معظم دوله ليتخلوا عن عروبتهم ويضغط على بعض دولهم في مسيرة التطبيع مع العدو الصهيوني. إنّ هذه السياسة الأميركية هي سياسة إمبريالية بكلّ معنى الكلمة سياسة إستعمارية وعلى رأسها قيادة تستبيح كلّ شيء في سبيل دعم “إسرائيل” لتحقيق أهدافه.
وقد بلغ الأمر في إدارة أميركا حداً أدّى إلى تهويد القدس ثم إلى ما سمّي بصفقة القرن يفرضها على العرب والفلسطينيين ولكن الأمة رفضت هذه الصفقة وانبرت الدول العربية المناضلة والمكافحة والشعب الفلسطيني برفض هذه الصفقة وبرفض احتلال “إسرائيل” الجاثم فوق الصدور. إنّ كلّ هذا المخطط الإسرائيلي الأميركي سوف يسقط كما سقط غيره من المخططات بفضل مقاومة فليسطينية شرسة ومقاومة عربية في دول الجوار من لبنان إلى سورية ثم إلى العراق ترفض هذا المخطط.
رحل العملاق بعد أن أعطى الأمة جيشاً مقاتلاً قاهراً جيش العدو ومحرراً الأرض ومعلناً إنتصاراً عليه أجهضه خلفه. وبقيت الأمة تناضل ومهما بلغت الصعوبات والإنحرافات في بعض دولها التي تسير وفق الإملاءات الأميركية والصهيونية كالعراق وسورية ولبنان وتونس والجزائر واليمن، فإنها لن تركع وستبقى شامخة مناضلة تنفض الغبار عنها وتشكل مقاومة مع المقاومة الفلسطينية التي تبقى دائماً بوصلتها الأساسية.
رحم الله جمال والأمل دائماً في الأمة.