السياسة الخارجيّة التركيّة إلى أين؟
د. هدى رزق
تفتح تركيا جبهات عدة من سورية إلى العراق وليبيا واليونان، تدعم كلياً اذربيجان في حربها ضد ارمينيا وتقوم وسائل الإعلام التركية بدق طبول الحرب مع تصاعد التوترات مع اليونان بشأن الخلافات الإقليمية والتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط وتدعم الحرب لاستعادة ناغوني كاراباخ والمناطق المحيطة في استفزاز واضح لروسيا استدعاءً للتدخل الاوروبي ودول الناتو. تنخفض حدة التصريحات ويبدأ الكلام في الاعلام عن التهدئة في اليونان وإعطاء الفرص. هذه الانعطافات المفاجئة في مسائل رئيسية تتعلق بالمصلحة الوطنية متكررة في تركيا منذ أن تولى الرئيس رجب طيب أردوغان سلطات تنفيذية في عام 2018، مما يدل على أن سياسة أنقرة الخارجية وقعت في فخ الرؤية القصيرة المدى وأصبح لا يمكن التنبؤ بالسياسات المتبعة بشكل متزايد. أصبحت السياسة الخارجية في أنقرة اليوم عالمًا من التناقض والارتباك.
في العامين الماضيين، ادعى الرئيس التركي أردوغان أنه يقوم بتحرّكات جريئة في السياسة الخارجية من أجل أمن تركيا، بما في ذلك العملية العسكرية التركية في شمال شرق سورية في أكتوبر 2019، كذلك اتفاقه البحري مع ليبيا في الشهر التالي، والجهود المبذولة لتأكيد وجود تركيا في أفريقيا وشرق البحر المتوسط؛ فيما أصبحت الشؤون الخارجية أداة لصقل صورة أردوغان، والنتيجة هي سياسة خارجية لدعم الرئيس انتخابياً. في ظل الأزمات الاقتصادية الناشئة.
قرار أنقرة بسحب سفينة أبحاث للتنقيب عن الغاز من المياه المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط بدا كبادرة شخصية من أردوغان لليونان.. وكأنما اصبحت السياسة الخارجية، تعكس أسلوب اردوغان في الاستقطاب في السياسة الداخلية، وبدا صنع القرار المؤسسي وكأنه يتآكل لمصلحة اختصار مسائل السياسة الخارجية بشخص الرئيس. لا تعكس السياسة الخارجية القائمة قدرة تركيا الاقتصادية والعسكرية. أصبحت تركيا معزولة بشكل متزايد بسبب فشلها في تطوير إطار عمل واقعي وعقلاني واستراتيجي.
لم تستخدم انقرة حتى حدود 2010 قوة عسكرية في سياساتها إنما قوة محدودة فقط لإدارة بيئة معقدة ومتعددة التهديدات. كانت أولويتها الرئيسية هي الصراع الداخلي استخدمت الدبلوماسية والردع لتجميد التنافس في شرق البحر الأبيض المتوسط وفي الصراع مع قبرص. وان كانت قد خاضت من بعدها الحرب في سورية فهي لم تخضها بجيشها في تلك الفترة إنما كان بواسطة المسلحين الآتين من اصقاع الارض.
لكن بعد محاولة الانقلاب في يوليو 2016 أدى عدد من العوامل الداخلية إلى عسكرة السياسة الخارجية. منذ دخول نظام الرئاسة التنفيذية حيز التنفيذ. اللافت أن العمليات العسكرية في الخارج أصبحت تتمتع بدعم شعبي قوي وتساعد في الحفاظ على شعبية أردوغان. كما أن احتضانه لخطاب أكثر قومية في الداخل وتعزيز تحالفه الفعلي مع حزب الحركة القومية المتطرف أدى الى تبنيه اسلوب استعراض العضلات العسكرية في الخارج وحتى في بعض الأحيان في الداخل مع القوى الكردية.
كثرت المخاطر الأمنية المتزايدة في سورية وفي شرق البحر المتوسط والعراق وشمال أفريقيا والمنافسة الاستراتيجية مع مصر وروسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقوى إقليمية أخرى.
الانتشار العسكري في الخارج يحظى بشعبية لدى القوات المسلحة نفسها، لأنه يعزز الروح المعنوية والتحفيز من خلال الأجور الإضافية وفرص الترقية ويوفر خبرة قيمة في عمليات القوات المشتركة، مع ازدياد تنسيق العلاقات بين القيادة العسكرية والمدنية، اللتين تتفقان على الحاجة إلى تعزيز القدرات العسكرية التركية وصناعة الدفاع.
يركّز الجنرالات الاتراك على الشؤون الخارجية وليس الشؤون الداخلية ويعتبر الموضوع مهماً بالنسبة الى السياسيين في العدالة والتنمية مما يتيح لهم ضمان عدم تدخل الجيش في السياسة، كما أن الازدهار في صناعة الدفاع التركية سمح لأنقرة باتباع استراتيجية أكثر استقلالية وعرّض أنظمتها الدفاعيّة لغرض التسويق الدولي. أصبحت السياسة الخارجية على نحو متزايد أداة للسياسة اليومية في الداخل، والتي تشكلت من خلال نهج شعبوي يعطي الأولوية للاستهلاك المحلي وبالتالي يضع السياسة الخارجية على الأجندة السياسية المحلية للحكومة بحيث أصبحت صدى لنهج أردوغان الاستقطابي والشعبوي في الداخل