هل من يتجرّأ على تحريك مياه الحكومة الراكدة؟
علي بدر الدين
بعد فشل المبادرة الفرنسية في لبنان وسقوطها المبكر وإضاعة فرصة تشكيل الحكومة والإصلاح، والعودة المدعومة فرنسياً إلى استكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وغيرها من وعود عقد مؤتمرات لدعم لبنان، وإعادة إحياء مقرّرات «سيدر» وغيرها.
لبنان دخل فعلياً في مرحلة صعبة جداً ومعقدة، وفى جمود أشدّ قسوة وتفاقماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومالياً ومعيشياً. وسدّت بوجهه كلّ المنافذ، آخرها المبادرة الفرنسية التي كان يمكن أن تحدث فرقاً ولو ضئيلاً، أو تفتح نافدة ضوء لخرق الحصار.
البداية الجيدة كانت بترجمة تشكيل حكومة مهمة وطنية إنقاذية تشاركية لولوج الإصلاح الحقيقي المعوّل عليه.
لكن رياح السياسة والمصالح وحسابات الربح والخسارة تحكّمت بمسار المركب الحكومي الإصلاحي وغيّرت اتجاهه على عكس ما يريد ويشتهي قبطانه الفرنسي الذي تخلى عنه بعض الطبقة السياسية اللبنانية. وعرقل الأميركي مهمته، وترك وحيداً في مواجهة الطوفان والمدّ والجزر، فقرّر التوقف في المحطة التي وصلها قبل اشتداد هبوب العاصفة، والعودة السريعة إلى نقطة الانطلاق لتقليل الخسائر قدر الإمكان.
رغم اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفشل المبادرة، وتحميله المسؤولية للسياسيين اللبنانيين الذين حضروا لقاء قصر الصنوبر ومن التقى بهم من المسؤولين، فإنه يصرّ على أنها لم تفشل ولم تسقط، وربما خسرت جولة، لكنها لم تخسر قوّتها وضرورتها كخطوة أولى في رحلة الألف ميل الإنقاذي، لتفادي السقوط النهائي.
إنّ المهلة الطويلة نسبياً التي أضافها ماكرون لإعادة الروح والحياة إلى مبادرته، غير واقعية وغير منتجة، ولا تعدو كونها مجرد هدر للوقت، وانتظار غير مجد للاستحقاق الانتخابي الرئاسي الأميركي ونتائجه.
ماذا سيتغيّر في حال فاز المرشح الديمقراطي بايدن، أو أعيد انتخاب ترامب الجمهوري؟ وهناك أشهر لتتمّ عملية التسليم والتسلّم، وإعادة هيكلة الإدارة الاميركية وترتيب الأولويات في السياسة الأميركية الخارجية، وهل سيكون لبنان على طاولة الرئيس الجديد؟ أما انتخاب ترامب، فهذا يعني أنّ الامور ستبقى على حالها من التصعيد والتوتر إقليميا ودولياً، ولبنان لن يكون بمنأى عما يحصل لأنه مقيم دائم في عين العاصفة، وساحة مفتوحة للمتصارعين الإقليميين والدوليين، وعنصر ربط لصراع المحاور والمصالح، وهذا ليس بجديد عليه، وقد تحوّل موقعه السياسي، الجغرافي، وتعدّد طوائفه ومذاهبه وكثرة الديوك فيه إلى نقمة فعلية أفقدته نعمة السلام والاستقرار. وزاد اكتشاف النفط والغاز في بحره ووفرتهما من شهية الدول القريبة والبعيدة لوضع اليد والسيطرة، ومضاعفة الضغوط، واللجوء إلى الترهيب والترغيب والتهديد والوعيد.
الأشدّ تعقيداً وفتكاً وخطراً وجودياً على لبنان يكمن في طبيعة استمرار نظامه السياسي الطائفي المذهبي والتحاصصي، والذي لم بنتج سوى الحروب والفتن المتنقلة والصراعات التي لم تنته فصولها، وأسوأ ما أنتجه هو الطبقة السياسية التي استفادت من هشاشة هذا النظام وصراعات مكوّناته الطائفية والمذهبية، لوضع اليد والسيطرة وتعميق الخلافات بعناوين غير وطنية، وابتداع عناوين وشعارات تحرك الغرائز وتثير النعرات والعصبيات، وتبيع وتشتري أمان اللبنانيين واستقرارهم وارتهانهم بالوظائف والتعيينات والسمسرات والاستزلام والمحسوبيات وغيرها من وسائل الإخضاع والزبائنية، والتهديد بالحروب والتقسيم والكانتونات والفيدرالية والكونفيدرالية، بهدف زرع الرعب والعيش بقلق دائم على الحاضر والمستقبل وضمان السكوت وعدم الاقتراب من المصالح والسلطة والمكتسبات المغتصبة.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الطبقة نجحت لغاية اليوم في مخططاتها الجهنمية، التي يعاني الشعب من نتائجها وتداعياتها وخطورتها، والتي أدّت إلى الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، وإلى البطالة والفقر والجوع والاحتضار البطيء، ووضع البلد على بوابة جهنم. وحدها الطبقة السياسية والمالية ما زالت منتعشة تعيش في «جنة النعيم» وأموالها في أمان ولم يتمّ السطو عليها لأنّ أصحابها شركاء ومتواطئون ومودعة في مصارف خارجية.
إنّ لبنان بفضلها فقد مقوّمات الوطن والدولة والمؤسّسات وحكم القانون والعدالة، وهو بات على فوهة بركان يغلي وقد ينفجر في أية لحظة، أمنياً واجتماعياً، وقد يسوده الفلتان والفوضى وشريعة الغاب وأكثر من ذلك، بسبب إنزلاقه السريع إلى الفراغ الكلي وفقدان كلّ شيء وتفشي البطالة وتعميم الفساد والفقر والمجاعة التي يبدو أنها ستدخل بيوت الفقراء ومتوسطي الدخل، بعد بدء سريان رفع الدعم عن السلع الضرورية، مثل المحروقات والطحين والدواء، وإقدام بعض المستشفيات على اعتماد صرف دولار الاستشفاء على سعر أربعة آلاف ليرة، والمصير الذي ينتظر الضمان الصحي والاجتماعي وما يمكن أن يحدثه من انعكاسات شديدة الخطورة على ملايين المضمونين، وحبل الأزمات يطول ويتآكله «الهريان» ويتفلّت تدريجياً ليسقط اللبنانيين في الهاوية السحيقة، وتحويل لبنان إلى مزارع وحصص ومقاطعات تتحكم فيها مكونات الطبقة السياسية الحاكمة، التي ستنتقل بالوراثة إلى الأبناء والأحفاد على شاكلة المشهد السياسي القائم والسائد في البلد، قبل وبعد اتفاق الطائف، وعندها لا يعود من داع لمقولات «لبنان يا قطعة سما» و «نيال من له مرقد عنزة»، والاعتداد بالتبولة والكبة النية والحمص بالنكهة اللبنانية المميّزة، وهي أساساً لم يعد لها مكان على موائد فقراء لبنان».
هذا المشهد السياسي والاقتصادي والمعيشي والمالي العام ليس مجرد سيناريو أو من الخيال أو عرضاً مسرحياً أو مشهداً درامياً في مسلسل تلفزيوني. إنه واقع وحقيقة وموجود بالأدلة القاطعة والبراهين الملموسة ومعاناة الشعب اليومية، ولا يمكن لأحد نكرانه إنْ كان في السلطة أو خارجها.
وتكفي صرخات الوجع والجوع اليومية من المواطنين الذين خسروا كلّ شيء ويدفعون وحدهم ثمن فساد جزء كبير من الطبقة السياسية ونهب المال العام والخاص وأموال المودعين في المصارف. وهم عاجزون عن فعل أيّ شيء بعدما تمّ استدراجهم إلى الفخاخ المنصوبة لهم، ورهنوا حياتهم ومعيشتهم وكراماتهم وخبزهم اليومي لهذه الطبقة، والتي لا زالت ممعنة في سياستها التدميرية للبلاد والعباد، لتحمي وجودها السلطوي والمصلحي وتوريثه للخلف «الصالح»٠
ان لبنان حتماً هو في العناية المركزة وربما في»الكوما» التي قد تطول كثيراً، لقصور في تشخيص أمراضه المزمنة وعجز في معالجتها بجرعات تسكينية وبالمهدئات، وبالمبادرات الخارجية التي تبحث فقط عن مصالحها وربحها وخسارتها.
الحلّ، أيّ حل يجب أن يبدأ من الداخل، وأولى خطواته الجدية تكون بفك الإرتباط والارتهان للخارج، وبمحاولة تشكيل حكومة تلائم الواقع الحالي السيّئ، علها تحدث خرقاً وتفتح طريق الإصلاح والتغيير، ولا فائدة من التعويل على المبادرة الفرنسية بواقعها الحالي الذي لم يتح لها المرور والنجاح، وقد تحتاج إلى تعديل ما في بنودها لتحظى بالقبول، وهذا لا يعني أن ينام البعض على حرير هذه المبادرة، ويترك البلد يذهب إلى جهنم وبئس المصير.
لا وقت للانتظار أو الرهان على المبادرة مع انّ بعض قنوات الاتصال ما زالت مفتوحة وعلى السمع، ولكن لا يمكن لأحد التوقع او التنبّؤ بالآتي، في ظلّ الصراع المحتدم ووضع الإصبع على الزناد إقليمياً ودولياً، وقد تحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية حسابات المحاور.
إنّ لبنان يختنق بعد حشره في عنق زجاجة المصالح السياسية وكباش المحاور، وهو اليوم في حالة ركود وجمود سياسي وحكومي، تقابلها انزلاقات وانهيارات وتدحرج على كلّ المستويات، قد لا يوقفها سوى مبادرة داخلية موازية للمبادرة الفرنسية مع تعديل أو إضافات ترضي جميع الاطراف، علها تساهم في وضع وتد الاتفاق على تشكيل الحكومة التي يحتاجها لبنان وشعبه.
فهل هناك من يتجرّأ على إطلاق المبادرة لتحريك
مياه الحكومة الراكدة، قبل خراب البلد وانعدام أيّ أمل بالإنقاذ؟