ما بين الخيار والاختيار
المهندس خالد الرواس
في المقال السابق، موضوع الجزء الأول من هذا العنوان، قلنا بأنّ الاختيارات غالباً ما تكون خاطئة بفعل الخيارات الخاطئة، أو تكون خاطئة، عن سوء قصد، في ظلّ خيارات صحيحة، لنخلص الى أنّ اللبنانيين قد أخفقوا، بعد مضيّ قرن من الزمن، في بناء وطنهم ودولتهم، بسبب خياراتهم الخاطئة، لابتعادهم عن الهوية الوطنية، ولتمسكهم بالخصوصية الدينية ببعدها السياسي الطائفي وبامتيازاتها الفئوية، بما شتّت اختياراتهم تعزيزاً لمكتسباتهم، بعيداً عن إيجاد الصيغة المناسبة للعبور بلبنان الى برّ الأمان.
فواقع الحال يشير في أحد مسبّباته الأساسية المعرقلة لعملية العبور بلبنان لحالة الاستقرار، الى وجود قوى سياسية محلية على سيبل المثال، ذات خيار ايديولوجي، سعت الى تسويق مشروعها، الفقهي في جانب منه، والنضالي على أحقيته، انطلاقاً من فكرها العقائدي، أدّى الى تعميق اغترابها عن محيطها التعدّدي، والى التباعد مع الآخر، بالرغم من أنها أوحت وتصرفت، ظاهرياً، على مدى عقود، بعكس ذلك، بهدف تعزيز هويتها وتمايزها، لدوافع تمليها ضرورات البقاء ومقتضيات المصالح، التي لا يتلاقى معظمها مع مصالح الناس والمصالح الوطنية العليا، بدل من أن تختار التكامل، مع باقي المكونات، على أسس وطنية، من دون التخلي بالضرورة عن صفتها الإيمانية، ارتضاءً للتعددية، لكن استناداً لبرامج سياسية اقتصادية اجتماعية مفيدة وواعدة، ذات منفعة عامة، تكون بعيدة عن الفساد، وقابلة للتطبيق الداخلي، لتشكيل عوامل قوة لتحصين انجازاتها وخاصرتها من جهة، ولتفادي عزلتها من جهة أخرى، القائمة أساساً على لعب دور الضحية، نتيجة عوامل تاريخية تدّعي تمثيلها والنطق باسمها، أخرجتها من دائرة الواقعية، الى أخرى، ترى فيها الآخر على أنه مصدر جحيمها، وأنّ نعيمها هو في كسر ارادته، مستخدمةً لهذه الغاية، لغة الخطابين، الأول تعبوي، والآخر سياسي، بنبرةٍ واثقة وبمزاجٍ “عصبوي”، رسمت بهما خطّاً سميكاً بين الأنا والآخر، وبين النحن والهُم، بما كرّس “الائتلافية” في تعاطيها مع باقي المكونات السياسية والاجتماعية، لكونها متباعدة الرؤى والأداء والأهداف معها أصلاً، على حساب الشراكة الفعلية، أدّى الى فرط عقد الشراكة الوطنية برمته، بشكل تامّ ومستمرّ، نتيجة هذا الخيار، وبكلفة مؤذية طالت أموال الناس ولقمة عيشهم وعوامل أمنهم وأمانهم، طمست معظم رصيد ما تحقق من إنجازات.
كما أنّ هناك واقع حال آخر، ومسبّبات أساسية أخرى، معرقلة لعملية الاستقرار، عند قوى سياسية محلية، على سبيل المثال لا الحصر أيضاً، كان خيارها ولا يزال، الولاء للبنان ككيان، جعلته ملتبس الانتماء والهوية، واختارت منذ نشأته، الابتعاد عن قضايا محيطه بحجة الحياد، تنكراً لواقعه القومي، الذي لو تآلفت معه، لحفظت خصوصيتها وتمايزها الثقافي، على نحو وطني، غير طائفي، محاكاةً وانسجاماً مع موقعه الجيو سياسي من جهة، وتكريساً لانتمائها الطبيعي لهذه البيئة والأرض من جهة أخرى، ذات اللغة الواحدة، لكنها، بدل ذلك، استمرّت، وبهدف تعزيز خيارها، بالرهان استقواءً على العامل الخارجي، ذات المطامع الكبرى في المنطقة، التي لا يقوى لبنان أصلاً على مجاراتها أو التصدي لها أو مواجهتها، في ظلّ غياب وحدة وطنية داخلية، وتشتت في القرار السياسي، منع من إيجاد آليات وحلول تدعم أيّ صمود داخلي بمواجهة التحديات الكبرى، والى وضع حدّ لما وصلت اليه الأمور من انفلات على الصعد كافة، أدّى ذلك الى عدم القدرة على بناء دولة مؤسسات، بفعل المحاصصات والهدر والتراخي والفوضى والمصالح الفئوية الضيقة، وبفعل تهميش دور أجهزة الرقابة والمحاسبة وغياب العدالة الاجتماعية والبرامج الوطنية، التي كان من شأنها، لو وُجدت، أن تُبعد شبح الانهيار الكلي عن البلد، نتيجة هذا الخيار، وأن تعيد النظر بطرح مشاريع الفدرلة واللامركزية الموسعة في المجتمع الواحد، استناداً الى عوامل سياسية وديمغرافية محدّدة.
انّ وقائع الحال الأخرى عديدة، وكلها لديها مسبّبات أساسية وخيارات، عرقلت عملية عبور لبنان لحالة الاستقرار، أسوةً بالحالات الأخرى، فالاقطاع السياسي قد حجّم عبر تاريخه، الحريات السياسية في حدود سقف الزعامات، والتقليد السياسي قضى بدوره على الطموح الشبابي بالمشاركة في الحياة السياسية من خلال عملية التوريث السياسي، أما الحركات القومية والتحررية، المندّدة بالاستعمار والوصايات الأجنبية، فقد أتت كتعبير عن المزاج الشعبي الحرّ، لكن نشاطها وحركتها وبرامجها بقيت محدودة ومكبّلة وغير قادرة على إحداث أيّ تغيير إيجابي وازن، يمكن أن يؤدي الى كسر وانفكاك عقد الارتهانات والتبعية.
وعليه، فقد عجز اللبنانيون في حكم أنفسهم، ضمن إدارة يسودها القانون، ليس لأنهم لا يريدون، فربما تكون الإرادة موجودة، ولو بالشكل أو بالتمنّي، بل لأنهم تمسكوا بالخصوصية الفئوية في الحكم، على حساب المصالح الوطنية، طمعاً بالامتيازات، بما لا يبني دولة ولا يؤسس لوطن، وهذا إن دلّ على شيء، إنما يدلّ على عدم نضوج الفكر الوطني لدى مختلف الفئات الشعبية اللبنانية وزعمائهم، بما كان سيؤهّلهم للنضال في سبيل بناء وطن وحماية التعددية فيه، وطنٌ لا تبقى فيه المؤسسات شكلية، ولا العدالة مهمشّة، ولا القوانين مخترقة، ولا قضاؤه قدر، ولا قواه المسلحة في خدمة سلطات الهدر والفساد، ولا الهوية الوطنية فيه مغيبة، ولا يبقى الدستور فيه وجهة نظر، وطنٌ تكون فيه الحرية مسؤولة، والديمقراطية فيه ذات أسس هادفة للبناء والتقدم، وطنٌ لا يبقى فيه المواطن قلقاً على مستقبله فيهاجر، ولا يبقى فيه المستثمر قلقاً على مصالحه فيغادر، ولا يبقى فيه شبابه رهينة الانتظار فيسافر، وطنٌ فارغ من كلّ هؤلاء لا يعود وطن، لأن عوامل الطرح والقسمة فيه هي أقوى من عوامل الجمع، بما لا يُقاس، حوّله زعماؤه الى لغمٍ دائمٍ قابل للانفجار، فخدموا بذلك أعداءه، بفعل خياراتهم الخاطئة بل المميتة، بدل من أن يكون واحةً قابلة للحياة والتقدم والاستمرار.
في المقابل، وبالحديث عن مشروع المواجهة، فقد وحّد العدو مشروعه الهادف إلى إضعافنا، فاستعمارنا، لنهب ثرواتنا، ولرهن قرارنا بما يخدم أجندته، ولإبقائنا في موقع الدفاع عن النفس، نبحث فيه عن التقدم فلا نجده، ونبحث عن التطور فلا نجده، ونبحث عن الاستقرار فلا نجده، ونبحث عن مستقبل أجيالنا فإذا هي بمتناوله، عدوّ بنى اقتصاده على حساب اقتصادنا، وعزز عوامل نموّه من خزائن أموالنا وثرواتنا الطبيعية، وأنشأ قوّته على حساب ضعفنا وتبعثر قوانا وتشتت طاقاتنا، بعدما تأكد من عجزنا في بناء مستقبلنا، وتلهّينا الدائم في البحث عن جنس الملائكة، من ضمن خيارات جوفاء بعناوين فارغة، خسرنا بسببها الدنيا ولم نكسب بواسطتها الآخرة، نتيجةً لتلك الخيارات.
لذلك، يبقى الخيار الأصعب للعبور بلبنان الى بر الأمان، هو في معرفة “أيّ لبنان نريد؟” في دوره وهويته وأهدافه، معزَّزاً بلغة الايمان لا بالطائفية، محصَّناً بالمساواة لا بالفئوية، يسوده العدل لا اللصوصية، مدافعٌ صلبٌ عن حقوق أبنائه وعن مصالحه الوطنية، عماده الهوية الوطنية، خيارٌ يصلح كخطوة أولى على السكة الصحيحة، والتي بنتيجتها سوف نُصيب باختياراتنا الوطنية، فنستعيد بذلك المبادرة ونتقدم على الصعد كافة، تعزيزاً وصوناً لهذا الخيار.