هذيان المساء
} حيدر الهاشمي
أغلق باب غرفته، وراح يتجوّل في باحة المنزل، ذهاباً وإياباً، يتكرّر ذلك المشهد مرات عديدة من دون توقف، تتسارع خطوات أقدامه، يحيط به الخوف من كل جانب، يشعل سيجارة ثم يطلقها كتلة دخان في الهواء، ينتزع من ذاكرته ابتسامتها العريضة، كما يفعل الفلاح حين ينتزع من حذائه البؤس والروث والطين، عندما يعود من الحقل .
يغني، يبكي، يصرخ بصوت عالٍ، يحاول أن يكون شخصاً آخر، لكنه لم يستطع أن يخرج من تلك الدوّامة، سمع صوت هاتفها يرنّ، دخل مسرعاً، لا زال المكان يحتفظ بأجوائه الرومانسية الهادئة، رغم كل ما حدث، الإنارة الخافتة، كؤوس النبيذ، أغاني السيدة، كان الهاتف مرميّاً تحت المنضدة، فتح السماعة وبصوت غاضب: أجب أيها التافه .. أجب.. هيا أجب.. أيها المنحرف الحقير .
ثم ضربه في الحائط، لكنه لا زال يرنّ ويرنّ ويرنّ، لا زال هو يُطلق النار على كل مصباح يرى فيه صورتها. ثلاث رصاصات فقط، هي مَن أردتها قتيلة، ومنذ أن قتلها وهي تلاحقه كالشبح الذي يظهر له فجأة في كل مكان، يسمع صوتاً من الحشد المظلم وكأنه صوته، لكن بوجه آخر: أيها المجنون لمَ قتلتها؟
هو: وما شأنك أنت، اكتشفت أنّها كانت تخونني !
الصوت: أنت قتلتها بثلاث رصاصات، لكنك لم تقتل الشك أبداً، الشكّ الذي سيقضي عليك عاجلاً أم آجلا، ههههه .. هههه .. هههه؟
هو: اغرب عن وجهي أيها الحقير وإلا قتلتك !!
الصوت: لا يمكنك قتلي، فأنا في داخلك. لكني سأتركك تأخذ قسطاً من الراحة .
دخل غرفة الطعام، أعدّ له فنجان قهوة، بعد أن نفدت ذخيرته من الجعة والشراب، جلس على كرسيه الهزاز، أخذ يتمتم مع نفسه.
آه دارين، القهوة هذه الليلة تحمل في طعمها كل مرارة الحياة، التي تشبه مرارة الموت، لا أعرف كيف صنعتها، لكنها سيئة المذاق، أفتقدك هذه الليلة كثيراً، ليتني أعرف مَن هو غريمي؟
دقّ منبّه هاتفه مع الساعة السابعة صباحاً، فزّ مرعوباً من نومه، نظر إلى يديه، إلى المكان، لا شيء يدلّ على الفوضى، لا شيء يدلّ على الجريمة، كان الباب مفتوحاً قليلاً، سمعها تضحك على الهاتف مع شخص ما في الصالة، حين ذهب إليها مسرعاً، التفت إليه مع ابتسامة هادئة وقالت:
أخي يبلغك السلام، أخيراً عاد إلى أرض الوطن .