الحياة الموت*
هنادي رفعت لوباني**
في كتابه «الحياة الموت»، يتخلّى جاك دريدا عن حرف العطف بين المفهومين (الحياة، الموت)، في رفضٍ قاطع لعلاقة مبنية على التباين الثنائي، أي الاقتران والمعارضة، مقابل علاقة أكثر تعقيداً من كينونة الوجود والدينامية البيولوجيّة. ما يحكم العلاقة بين الحياة والموت هو منطق الاختلاف غير القابل للاختزال، فلا حدَّ فاصل بينهما؛ الواحد هو الآخر من الآخر ويمرّ في الآخر. المحرّك لعنوان كتاب دريدا هو وصية أفلاطون بأن «التفلسف هو تعلّم الموت»، كما جملة نيتشه: «دعونا لا نقول إن الموت سيعارض الحياة». إذاً، وبحسب دريدا، الموت سؤال تأسيسي لا ينفصم عن سؤال العيش، فالحياة موضحة بالموت: «تعلُّم العيش ينبغي أن يعني تعلُّم الموت، وأن نأخذ في الحسبان الفناء المطلق».
ولكن كيف نُعلم/نَتعلم هذا الذي لا يمكن أن يفسّر، هذا الغيري في لغز الماوراء؟ لا يسعى دريدا إلى إبقاء وتسطيح وتسوية التوترات بين المفهومين، بل إلى إبرازهما وإثارتهما بهدف تفكيكهما باعتبارهما شروط إمكانية معرفة تقوّض المفاهيم الكلاسيكية والحداثية المبنية على مركزية عقلية تسعى للقبض على الحياة والعيش من خلال تحويلها إلى مواضيع للدراسة والتحكّم والتسلّط وتحديد الهوية، والقبض على الموت من خلال مفاهيم الخلاص والبعث والغفران. هنا يحول دريدا سؤال الموت إلى سؤال: كيف نحيا الحياة مع الموت؟ هذا سؤال الصيرورة في حياة ما هي إلا ميتات متتالية تبدأ لحظة الانفصال عن جنّة رحم الأم ولا تنتهي بالموت الفعلي لفرد أو جماعة؛ بل تستوقفنا في حالات مميتة من الهجرة أو التهجير أو الانتقال أو البطالة أو المرض أو السجن أو الظلم أو الفساد، كما في لحظات الموت الخاصة والفريدة التي ترسلنا في كل ثراء الحداد الذي لا ينبغي أن نشوّهه بالنظر إلى ما وراء الموت، بل إلى اعتبار أننا «فانون مُنحوا إنقاذاً مؤقتاً».
وإذا كان الموت يعني صمت الجسد النهائي، فإن الحداد يعني أن نفكر فيه بوصفه قيمة لغوية، أن نرثيه كنص حي ساهم في كيفية عيش الحياة لا كحالة للتقديس أو مشهد للنحيب أو للتشويه بأي نوع من الخلاص.. أن نخلده بابتكار حيوات جديدة له تتجاوز عتبة الموت وتجدد رمزيّته إزاء موت هو أصلاً في حاجة إلى معنى في الحياة.. أن لا نشفي غليل الموت في التغييب والغياب، بل نشعل ونفعل الرغبة/اللذة في أن نعرفه أكثر، ونقرأه أكثر، ونتأثر به أكثر، ونصنع شيئاً منه للحياة.. أن نعيش أثره في النص/اللغة متحررين قدر الإمكان من ثقافة الخوف الممنهج الذي تسيره الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية والأيديولوجيات الشمولية والتكفيرية والإقصائية والإحلالية، التي تحاول أن تأسر معظم تصرفاتنا وردود أفعالنا وتقودنا إلى حالات الاستسلام والاستعباد والانقياد، النفاق والكذب والغش والفساد، القهر والتخلف والمرض، جهل ودجل الشيوخ والالتجاء إلى الغيب، انتهاج الببغاويّة في التفكير والتقليل من التفكير النقدي.. أن نرفض أن نموت في الحياة كــ «سفالة غير مقبولة».
وكما الموت هو فعل تحرّر وانطلاق، يدافع دريدا في آخر مقابلة له مع مجلة «لوموند» عن خطابه وخطاب من سبقوه وعاصروه من الفلاسفة والمثقفين، والذين تطلق عليهم هيلين سيكوس لقب «المبدئيّين» لرفضهم تقديم التنازلات وتبسيط إنتاجهم وتسطيحه أو قمع فكرتهم وكبتها. يشبه دريدا هذا بأن يطلب منه أن يموت في الحياة، وأن يموت فيها من ساهم في تكوينه الثقافي، وأن يتنازل ويتخلى عمن شعر نحوهم بالحب الجمّ. بالنسبة لدريدا، رفض التنازل ليس فقط نوعاً مميّزاً من البقاء في الإخلاص، بل لأن هذا التنازل هو أيضاً «خطيئة لا تغتفر.. نحو من الانحناء والتذلل، أو الموت من التفاهة». في المقابلة ذاتها، يدعونا دريدا إلى الاستعداد لحرب لا هوادة فيها ضد الدوكسا، خبراء ومثقفي كرنڤلات الإعلام والمنخرطون في دعارة آليات إقناع الرأي العام والتأثير فيه لصالح الثقافة السائدة والمرتبة مسبقاً بقوى الميديا التي تتحكم بها لوبيات أكاديمية، تحريرية، سياسية، اقتصادية محلية وعالمية.
في خضم هذه الحرب الضروس ضد الدوكسا وتفاهة الانحناء والتذلل والنكران لفلسطين قضية وأرضاً وشعباً، نتقدّم بالعزاء لعائلة الدكتور بسام رجا الذي وافته المنية في الصباح الباكر من 27 أيلول ليخط بموته سطراً جديداً في كتاب التراجيديا الفلسطينية المستمرّة. لم أعرف الدكتور بسام رجا شخصياً ولم يكن صديقاً.. عرفته كقارئة وتابعته كإعلامي وأديب ومثقف.. هو رفيقي في الهمّ الفلسطيني. وهو جاري في الخزان الذي دق بسام جداره مراراً وتكراراً في وادي السياسة الفلسطينية الرسميّة، وأطلق منه الصرخات في وجه مواسم الإرهاب التكفيري والتصهين والتطبيع الرسمي العربي والحروب التي يديرها مشايخ مدن الملح والنفط من تدمير لليمن ودعمهم الإرهاب في سورية والتنازل عن فلسطين والمقدسات. هو من جسد النص الأدبي المقاوم الذي يسير على درب فلسطين، ويقتات على حلم العودة إليها، ويطلق رصاص الكلمة تلو الكلمة لوقف جرحها النازف. وهو ابن مخيم اليرموك والشام وبولندا الذي ظل ابناً باراً لقريته إجزم ولكل فلسطين من نهرها إلى بحرها وحتى آخر شبر فيها. هو مَن أخذته الحياة الفلسطينية بكل أفراحها وأتراحها، انتصاراتها وانتكاساتها، أحلامها وكوابيسها حتى المنتهى من دون أن يكلّ أو ينكسر أو ينحني.
في كل صباح تفجعني أسماء جديدة، صور وكلمات ونعوات ووداع لموت جديد. أخذ الموت منا الدكتور بسام رجا وأخذ قبله الإعلامي والأديب القدير نافذ أبو حسنة وبعده الفنان المقدسي محمد الجولاني.. أخذ الموت منّا الكثير، منهم مَن لا أعرف، ومنهم مَن أعرف، ومنهم مَن أتعرف عليه بعد رحيله لأدرك معنى الخسارة وفداحتها. مللت الخسارات.. مللت الحزن والندم.. ما أنا بحجر! «طموحي أن أموت من الإرهاق لا من الملل»، يأتيني صوت توماس كارليل ليذكرني أن الموت الحياة تحتاج إلى قفزات ونقلات تكسر الجمود والخلل.. أبكي، فينساب خمر تعتّق في عيوني.. أصرخ، فينكسر نعاس الروح على تيار صوتي.. أصرخ أعلى، فتهذي أصابعي وتتسلل منهم حبائل مجدولة من كلماتهم وألوانهم الحيّة والمستمرة في عطائهم المشرف في العمل الميداني والسياسي والإعلامي والأدبي والفني والثقافي.. سأحملهم معي وأحرس إرثهم بقوة وصلابة، وأعيد رسم خطاهم كي لا تجفّ.. وفي حوار مضارع، سأقول ما قالوه وما لم يقولوه مضاعفاً، متنوّعاً.. سأمتلئ بهم، فيفيضون من كل جانب ثورة مستمرّة لا نهاية لها.. لن أتركهم خلفي، سأعيد توليدهم من جديد كأنغام تحرّرت وانطلقت في الآفاق لتلامس روحي وتخاطب قدرات الحياة فيني.. سآخذهم معي، وأرسم بهم ومعهم ملامح بداية جديدة.
أنظر للسماء.. أنا تحت سمائهم ذاتها، تظللنا غيمة متحركة كانت هناك، في سعسع وإجزم وغزة والقدس، في كل فلسطين.. تظلّلنا حتى في ارتحالنا… فالسلام عليك يا أرض العنقاء. والسلام لكم يا أبناء الأرض الواحدة.. أحداً أحداً..
وما تبقى لنا؟ تبقى الكثير من دروس الشهادة في الحياة الموت والموت الحياة في إرادة الصمود والنضال والبقاء والعودة، وثورة الخروج من منفى الذات والهموم الشخصية إلى أرض الفعل والهم الفلسطيني وعلى تباشير صوت وكلمات بسام رجا: «صباحكم مقاومة».
*مقالة أبّنت بها الكاتبة الراحل الدكتور بسام رجا في ذكرى أسبوعه في محور خاص عنه.
**كاتبة وباحثة فلسطينية.