البحار الخمسة والانسحاب الأميركيّ والإسرائيليّ من أذربيجان أولاً
ناصر قنديل
– تتقاطع المعطيّات التاريخية مع الأسباب الوطنية والأتنية والعرقية والقومية في نزاعات العالم الجديد، بعد نهاية الحرب الباردة، مع مصالح النفط والغاز ومصادرهما والأنابيب الناقلة لهما، والممرات المائية للناقلات التي تحمل هذه الموارد من مصادرها إلى أسواق العالم، مع التبدّلات التي تصيب موازين القوى العالمية وتصادم الاستراتيجيات، لتتشكّل مشاهد الحروب الصغيرة – الكبيرة، الممتدّة على مساحة العالم والمتركزة في مناطق تتوزّع بين أحواض البحار الخمسة، التي شكلت عنوان مشروع يحمل اسم الرئيس السوري بشار الأسد، تحت عنوان الدعوة لمنظومة إقليمية تضم الدول التي تشاطئ البحار، الأبيض المتوسط والأحمر والأسود وقزوين وعُمان وتقع مناطق القوقاز والمشرق وتركيا وإيران وروسيا والخليج في قلبها، ووفقاً لبعض قراء الاستراتيجيات أن الحرب الاستباقية على سورية التي قادتها واشنطن جاءت لمنع قيام هذه المنظومة الإقليميّة، التي تستند دعوة الأسد لقيامها إلى استقرائه بدء مرحلة فراغ استراتيجي ستخيم عليها في ضوء الفشل الأميركي في حربي العراق وأفغانستان، فجاءت الحرب على قاعدة الإنكار الأميركي للتسليم بالفراغ وإغلاقاً لباب البحث بالبدائل إقليمية.
– الانسحابات الأميركية من أوزباكستان، والتي على الطريق من أفغانستان، والموعود بها من كل من سورية والعراق، تجعل الفراغ الاستراتيجي أمراً واقعاً، بالتزامن مع استرداد روسيا زمام المبادرة في مناطق النزاع الواقعة ضمن المدى التاريخي للاتحاد السوفياتي، وفي محيطها الأبعد لأمنها القومي، انطلاقا من حسمها العسكري مع جورجيا، عبر اجتياح أوسيتيا الجنوبية عام 2008، وصولاً لحسم أمر شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، عام 2014، وصولاً للتموضع العسكري المباشر في سورية عام 2015، وبالتوازي مع ذلك ظهور إيران كقوة إقليمية صاعدة بعد حضورها في الحرب على سورية من جهة وفوزها بالاتفاق النووي من جهة مقابلة، وتبلور دورها كقوة داعمة لقوى صاعدة في لبنان والعراق واليمن وفلسطين، وظهور تركيا كقوة إقليميّة تملك مشروعاً لفرض حضورها كشريك إقليمي، سواء تحت سقف الانضواء في حلف الأطلسي أو من خارجه وعلى حساب حلفاء فيه، أو بمواجهة بعض الحلفاء الأعضاء البارزين فيه كفرنسا، ما يعني عملياً أن مشروع المنظومة الإقليمية التي تحدث عنها الرئيس بشار الأسد منذ عام 2009، عادت لتشكل إطاراً يملأ الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانكفاء الأميركي، رغم الإنكار، لكن بدلاً من أن يتم ذلك على البارد وبوعي استباقي، فهي تتم الآن على الساخن وبدفع أثمان باهظة، وربما تكون مغامرات ورعونة الرئيس التركي المسؤول الرئيسي عن تضييع فرصة الخيار الاستباقي السلمي وحلول الخيار الدموي مكانه.
– تشبه الحرب بين اذربيجان وأرمينيا في كثير من وجوهها الجيوسياسية، الحرب على سورية، حيث تحضر ثروات وأنابيب النفط والغاز، وحيث تحضر التجاذبات الإقليمية والدولية. ففي أذربيجان أقرب القواعد الأميركية لحدود روسيا في آسيا، وأقرب تمركز إسرائيلي لإيران، وترابط تاريخي وجغرافي لمنطقة النزاع بكل من روسيا وإيران وتركيا، ومصالح أوروبية حاضرة بتدفق موارد الطاقة، وخصوصاً خط تاناب الذي يزود أوروبا بغاز بحر قزوين والممتد على مسافة 3500 كلم عابراً الأراضي التركية. والحل الذي ينهي الحرب الممتدة الجذور إلى صراعات الهويات التاريخية والتنازع الحدودي، لا يمكن أن يجد فرصته إلا عندما تتبلور توازنات متفق عليها ومسلم بها لموقع الصراع في الخرائط الجيوسياسية والعسكرية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وهذا لن يتحقق من دون الانسحاب الأميركي والإسرائيلي من أذربيجان، وتموضع تركيا خارج المشروع الأطلسي للضغط على روسيا اسوة بما فعلته في سورية من قبل، ليتم تظهير إطار للحل السياسي وفق قواعد شبيهة بمسار أستانة الروسي الإيراني التركي.
– كما كان تأخير مسار منظومة البحار الخمسة بفعل رعونة وغرور وخطأ رهانات وحسابات الرئيس التركي، سيتأخر الحال في ناغورني قره باغ حتى تنضج تركيا لصالح تكرار ما فعلته في سورية بانضوائها ضمن ثلاثية روسية تركية إيرانية، سيتكفل وجودها بتخفيض التوتر من جهة، وبتسريع القناعة الأذربيجانية بضرورة تسريع انسحاب أميركي إسرائيلي من أراضيها، كشرط لجهوزيتها لنزع الفتائل الإقليمية والدولية من النزاع، والمفارقة اللافتة في هذا الصراع أن إيران المتهمة ببناء هلال شيعي أو أكثر والتي ترتبط بالانتماء للمذهب الشيعي مع أكثر من 85% من الآذريين، فيما ينتسب 20% من الإيرانيين للعرق الآذري الذي يشكل القومية الثانية بعد الفارسية بين مكوّنات الشعب الإيراني، تجد نفسها أقرب لأرمينيا المسيحيّة، بينما تجد تركيا التي تخوض معركة زعامة سنة العالم الإسلامي مع أذربيجان الشيعية، ما يكفي لفهم كيفية تموضع الدول في السياسات والحروب، وفقاً للاستراتيجيات العليا والمصالح الكبرى، فيما لا تشكل القومية والمذهبية إلا الغطاء أو الذريعة عندما تنسجم مع المصالح العليا، فحيث تنوجد أميركا و«إسرائيل» يستحيل أن تجد إيران حليفاً كما يصعب أن تجد تركيا عدواً.