الأمة التي لا تاريخ لها ليست لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم تاريخنا حافلٌ بالإبداع والإنجازات ومعرفته شرط نهوضنا وواجب قوميّ
} د. ادمون ملحم
يقول سعاده: «هنيئاً للأمة التي لها تاريخ.. وويل للأمة التي لا تاريخ لها»1، لأنه «ليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى»2. ومن المعروف أن أمتنا السورية لها تاريخ طويل زاخر بالعباقرة والعظماء والقادة النوابغ والحكماء ومليء بالمآثر والعطاءات والاكتشافات والاختراعات والأمجاد والإنجازات الحضارية في الفكر والتشريع والدين والفن والزراعة والتعليم وغيرها من المنجزات التي كانت لبلادنا الأسبقيّة على بقية الشعوب في استنباطها وتوزيعها على العالم… ولكن هذا التاريخ ما زال مجهولاً ومشوّهاً ومزوّراً ومطموساً تحت التراب نتيجة عوامل الطبيعة والزمن والحروب وغزوات البرابرة والفتوحات الأجنبية الكبرى التي أخضعت البلاد إلى الغزاة وإلى الطغيان العثماني وبربريته الذي دمّرَ معالم حياتنا الثقافية والعمرانية.. فبقيت حقائق كبيرة وأحداث عديدة في تاريخنا الطويل والكثير الكثير من آثارنا القديمة وكنوزنا الحضارية الثمينة مدفونة تحت أنقاض وخرائب المدن المدمّرة ومطمورة «تحت طبقات كثيفة من تراب العصور وغبار الأزمان»3..
تاريخ مشّوه:
ونتيجة تراجعنا وخضوعنا للاستعمار قروناً عديدة، كُتِبَ تاريخنا مجتزَأً ومبتوراً من قبل مؤرخين أجانب مخطئين ومعظمهم عجز عن كتابة هذا التاريخ القومي لبيئتنا الجغرافية الواحدة ككل واحد وكصرح حضاري متكامل ومتشابك في أحداثه ومتسلسل في حقبه وأجزائه، لا بل عمل بعضهم عن سوء نية وقصد وبروح العداء لسورية «وبعدم إنصاف للحضارة والثقافة السوريتين»4 على تشويه هذا التاريخ وتزوير حقائقه والتلاعب بها.. فضاعت حقيقتنا الأثنية والجغرافية وبتنا في حالة تفكك وضياع نجهل تاريخنا وأحداثه ونفتقد لاستقلالنا ولا نستطيع التعرف إلى حياة أمتنا وعظمتها وإنجازاتها وتاريخها المستقل من الكتابات التاريخية التي دوّنها عنها مؤرّخون وفلاسفة التاريخ من أعدائها الغربيين ومن مؤرخي اليونان والرومان وتلامذة مدارسهم للتاريخ.. وزاد الطين بلة في تزوير تاريخنا وتشويه حقائقه من قبل الإرادات المغرضة مجيء الصهيونية المجرمة التي اغتصبت أرضنا وبدأت بتنفيذ مشروعها الاستيطاني – التوسعي – العنصري، بحماية الغرب، ولجأت إلى ارتكاب الجرائم البشعة بحق شعبنا وبتشّويه تاريخنا الحضاري وسرقة كنوزنا الروحية والثقافية وتدمير مدننا الأثرية والحطُّ من قيمنا الدينية والعمل على تهويد أرضنا ومعالمها الحضارية.
جهلنا لتاريخنا الحضاري:
فمشكلتنا، إذاً، تكمن في عدم وعينا القومي، وفي انحطاطنا واغترابنا عن جذورنا، وجهلنا لتاريخنا الحضاري الذي أُهملَ وضاعَ في الحوادث التاريخية المتعاقبة التي طمست الآثار ودفنتها تحت الأنقاض والخرائب.. وكما يقول سعاده: «إنّ أعظم ما أصبنا به هو أننا نسينا تاريخنا، وصرنا حائرين كاليتيم الذي يجهل أباه وأمه..»5. لذلك، من الواجب علينا ان نعود إلى دراسة تاريخنا وفهم أحداثه وإعادة تركيبها وإعطائها معانيها الإنسانية والمناقبية. يجب على السوري، كما يقول سعاده، أن «يراجع تاريخه ويدرسه بتدقيق وإمعان. ومتى لاحق هذه القضية يدرك أنه ليس يتيماً بل هو ابن تاريخ مجيد، وأنّ بلاده أعطت إنتاجاً في أسواق الرقي الإنسانيّ مثل أعظم الأمم، بل أكثر منها». 6
وما يساهم في انعدام وعينا أن بعض الضالّين من كتّابنا وفلاسفتنا ومؤرّخينا الذين درسوا في مدارس الاستعمار الغربي وتخرّجوا من معاهده أخذوا، بثقافتهم الزائفة وبضلالهم وقصورهم عن دراسة تاريخ الأمة، يفلسفون مؤامرات الغربيين على أمتنا ووطننا ويبررون استمرار أوضاعنا السياسيّة وتسلط الطبقة السياسية الإقطاعية – الطائفية المتغطرسة. وبعضهم الآخر «لم يَسْموا بعد بعقلهم ووجدانهم الى مستوى الانتساب الحضاري والسياسي والثقافي إلى وطنهم سورية». 7
سرقة تراثنا:
إن الكتب الأجنبية في الفلسفة والأدب والتاريخ وغيرها من الحقول لا تكتفي بتشويه الحقائق التاريخية بل ترتكب جرائم أدبية ضدنا وتُنكِر على كثيرين من عظماء سورية وفلاسفتها وحكمائها وأدبائها وعلمائها جنسيتهم السورية وتصرُّ على ادعاء جنسيتهم.. وزينون الكبير، الفيلسوف الرواقي الفينيقي – الكنعاني، هو مثلٌ عن هؤلاء السوريين الخالدين الذين لهم فضل كبير على الإنسانية والذين سرقهم الغرب منا وطمس هويتهم الأصلية. فهو، في معظم الكتب والقواميس والموسوعات، يُعرّف على انه يوناني وليس بكونه سورياً ولد في كيتيوم الفينيقية في الجزيرة القبرصية.. وهذا ما يعتبره المؤرخ حردان «بالسرقة الأدبية التراثية الفاضحة المعيبة الكبيرة التي يرتكبها الغرب ضدنا، إلى جانب غيرها من عشرات السرقات..»8. وهناك عدد كبير من الفلاسفة المعروفين والمنسوبين إلى اليونان هم في حقيقة الأمر سوريّو الأصل. يقول المؤرخ والكاتب الأمين نواف حردان: «إن تراثنا الثقافي الفكري الحضاري الأصيل، سرقه سوانا، ونسبه إلى نفسه عن سابق تعمد وقصد وتصميم، كما نهبت آثارنا وكنوزنا الحضارية».9 لذلك نبّه سعاده الأمين فخري معلوف الذي كان يتخصص في أميركانية في الفلسفة «وكان متجهاً إلى فلاسفة اليونان الكلاسيكيّين»، فأشار عليه بالاهتمام بزينون و»بوجوب التنقيب عن الفلاسفة السوريين وإظهار آثارهم وتعريف مذاهبهم…».10 المؤرخ حردان كان أحد المثقفين الذين عملوا بتوجيه سعاده بوجوب بالاهتمام بشأن تاريخنا والتنقيب عن الفلاسفة السوريين والتعريف بمذاهبهم. لقد وضع حردان مجموعة من المؤلفات التاريخيّة المهمة وكرّسً كتابه «صانعو تراثنا الثقافي الحضاري»11 ليكشف عن عدد كبير من عظماء سورية منهم طاليس، صاحب المدرسة الفلسفية الأيونيّة الطبيعيّة في ميلاتية12، المعروف بأبي الفلسفة وهو ميلاتي من أصل سوري – فينيقي وأول معلّمي الفلسفة في اليونان وهو الذي أدخل علمي الهندسة والفلك إلى بلاد أيونيا بعد أن تعلمهما من البابليين. ومنهم الفيلسوف والرياضي العبقري بيتاغوراس الذي وُلد في صيدون من أبوين فينيقيين وتربّى في جزيرة ساموس اليونانية13، وإقليد أبو الهندسة وأولبيان وبابينيان أستاذا مدرسة الحقوق في بيروت، ولونجينو الحمصي وزير الملكة زنوبيا، وتلميذه برفير، وفيلون الجبيلي، المفكر الجريء الذي قارن بين عقليات الشعوب وانتقد «شذوذ اليونان وضلالهم الديني، وأرجعهما إلى اقتباسهم المغلوط عن الفينيقيين»14، وبوصيدون الأفامي ولقيان السميساطي ويوحنا فم الذهب، المصلح الديني والمفكر الفلسفي، وأسدروبعل القرطاجي وغيرهم 15…
والغرب الإستعماري المُداهِن، الذي يتحرك وفق مصالحه وأطماعه، يدّعي احترامه لإرادة الشعوب وحرياتها ويقدّس العقل وقوانينه، لكنه يتعامى عن تاريخنا القديم ويطمس حقائقه ويزوّرها ويتلاعب بها، عن سوء نية وقصد، وأحياناً لعجز الدارسين عن تفسير الأحداث التاريخية وسيرها، ويتجاهل الاكتشافات المهمة في سورية الطبيعية، التي تثبت أن هذه البلاد كانت خلاّقة وكانت مهد الحضارة الإنسانية ومنها انبثقت أنوار المعرفة تضيء دروب الأمم وفيها تفجّرت ينابيع الحكمة والعلم والفنون والفكر النيّر في الشؤون كافة وتدفقت إلى ربوع العالم تروي بساتين الحضارة الإنسانية فتنبت أشجار الفكر والمعرفة وتمتدّ إلى اليونان ورومة وأوروبة ومن ثم إلى العالم الجديد.
تنزيه معارفنا:
إن الواجب القومي يدعونا إلى «تنزيه معارفنا في ما يتعلق بأنفسنا»16 وإلى الاهتمام بتاريخنا المضيء والغني بالإنجازات والمعارف والاكتشافات، لأنه، كما يقول سعاده، «إذا لم نقم بشأن تاريخنا فلا شأن لنا في التاريخ. والأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم». 17
وتنزيه معارفنا يتم بالعقل والعلوم والبحوث وباعتماد طريق الاستقلال الفكري – الروحي المنزّه عن التأثيرات الغريبة، ويتم بالعودة إلى تاريخنا القومي وتراثنا الثقافي وإلى جوهر الأمة ونفسيتها الحقيقية الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي سيرها وأعمالها ومآثرها الثقافية وفي «ما خلّده سوريون عظام كزينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديماً وحديثاً».18 فالتراث الثقافي يشكِّلُ ثروة روحية للأمة وأساساً لبناء المستقبل وفيه نجد جذور هويتنا التاريخية. وكما يقول د. حيدر حاج إسماعيل: «التراث الثقافي للأمة هو بمثابة هويتها وهو حجة وجودها وقيمة هذا الوجود، كما أنه درعها الروحيّة التي يحميها من سهام الغزوات الثقافية الغريبة».19
الدفاع عن تراثنا:
إن الدفاع عن تراثنا الثقافي والفكري والمطالبة به واستعادة ما نهب من آثارنا وما سرق من كنوزنا الحضارية وما نسب لغيرنا من سوريين خالدين هو واجب قوميّ محتم علينا، لا يجوز لنا إهماله. إن من حقنا التاريخي أن ننهض من كبوتنا وننعم بالحياة اللائقة، ولكي نحقق ذلك فإنه من واجبنا القومي والثقافي ان نعود لتاريخنا وندرسه لنفهم حقيقة نفسيتنا السورية ومراميها وخط فكرنا السوري ولتتكون لنا المعرفة الصحيحة في ما يخصنا من تراث فكري أصيل حافل بمبدعيه وغني بينابيعه المعرفية وشلالاته العلمية، فندافع عندئذ عن هذا التراث ونطالب باستعادته. وواجب علينا ان نفتش عن تاريخنا الحقيقي في كل مراحله وأن نستعيد كنوزنا المفقودة ونجمع آثارنا الفكرية والأدبية المبعثرة. يقول سعاده: «إنّ آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثراً لا مثيل له. وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة، أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية».20 إن معرفتنا بتاريخنا الحضاري الطويل والحافل بالإنجازات الحضارية التي «ترفع رأسنا عالياً بين الأمم..»، كما يقول فؤاد شواف، «ترشدنا إلى إمكانياتنا ومؤهلاتنا الحقيقية، وتعيد الثقة إلى نفوسنا وتحررنا من عقدة النقص التي نعانيها.»21 ويدّون المؤرخ نواف حردان:
إن من حقنا ومن واجبنا أن نعرف ما لنا وما يخصنا، من تراث فكري حافل بالبذار الجيد والخمير الصالح والغنى والخصب والعطاء.. وأن نعلن للعالم صائحين بأصوات عالية داوية، بأن ذلك التراث الذي كان ينبوع الفكر والعلم والمعرفة والحضارة، كان لنا وليس لغيرنا. إن إعلان حقنا بكنوزنا الحضارية وتراثنا القومي الصافي الأصيل، هو دفاع عن النفس عادل ومشروع.. وحق واضح صارخ، الى جانب كونه واجباً ثقافياً علمياً تاريخياً وقومياً في وقت واحد. 22
هوامش:
1 ـ أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث، 1937، بيروت، 1978، ص 205.
2 ـ سعاده، «الاتحاد العملي في حياة الأمم»، الآثار الكاملة – الجزء الثاني– 1932-1936، بيروت، 1976، ص 108.
3 ـ نواف حردان، صانعو تراثنا الثقافي الحضاري، الطبعة الأولى، 1996، دار الحداثة، ص 21.
4 ـ سعاده، المحاضرات العشر 1948، بيروت، 1976، ص 75.
5 ـ الزعيم في سانتياغو، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 67، 25/05/1940.
6 ـ المرجع ذاته.
7 ـ أسد الأشقر، الخطوط الكبرى في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي، الحزء الأول، منشورات مجلة فكر، بيروت، 1981، ص 25.
8 ـ نواف حردان، صانعو تراثنا الثقافي الحضاري، ص 23.
9 ـ نواف حردان، صانعو تراثنا الثقافي الحضاري، ص 22.
10 ـ رسالة إلى غسان تويني، 21/02/1946. منشورة في الأثار الكاملة – الجزء 13، أنطون سعاده في مغتربه القسري 1946، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر، بيروت، 1984، ص 261. وفي رسالة ثانية إلى غسان تويني بتاريخ 07/04/1946، يذكر سعاده أنه كتب إلى معلوف بعد أن لاحظ منه «اضطراباً في اختيار القضايا الفلسفية، وتردّد بين أفلاطون وأرسطو والقضايا التي عرض لها». فكتب إليه طالباً منه «الاهتمام بزينون وغيره من الفلاسفة والمفكرين السوريين وفي إظهار مآثرهم».
11 ـ نواف حردان، صانعو تراثنا الثقافي الحضاري، ص 22.
12 ـ لأنها اتجهت في بحثها إلى الطبيعة. ميلاتية كانت أعظم مدينة يونانية في عصرها. مدينة غنية وفيها مرفأ يلتفي فيه الشرق والغرب.
13 ـ راجع قصته، المرجع ذاته، 137-147.
14 ـ نواف حردان، صانعو تراثنا الثقافي الحضاري، ص 211.
15 ـ المرجع ذاته، 24-25.
16 ـ سعاده، علم الناريخ وسلام العالم: درس ومذهب، المعرض، بيروت، العدد 32، 30/05/1931.
17 ـ سعاده، «الاتحاد العملي في حياة الأمم»، الآثار الكاملة – الجزء الثاني– 1932-1936، بيروت، 1976، ص 108.
18 ـ المحاضرات العشر، ص 105-106.
19 ـ حيدر حاج إسماعيل، «التراث الثقافي عند سعاده وأهميته»، منشور في مجلة فكر، العدد 92، حزيران 2006، ص 26.
20 ـ سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، طريق الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 155.
21 ـ فؤاد شواف، «آثارنا تدل علينا»، منشور في مجلة فكر، العدد 68، 1989-1990، بيروت، ص 18.