هل يكون الشعر «المحكك» مدرسة.. تجربة الشاعر محمد سعيد العتيق نموذجاً!
} سيد محمد الياسري*
يظهر أن الأدباء والنقّاد لم يستطيعوا أن يجعلوا الشعر المحكك مدرسة – على الرغم من أن بعضهم يسمّونه مدرسة – ربما الأسباب كانت كامنة في تلك العصور، من اهمها عدم التفريد له وتشجيعها وتغيير لفظ بعض الكلمات أو الأبيات ما يغيّر من المعنى وياخذ القصيدة بعيداً عن معناها الاصلي أو الهدف التي قيلت فيه، لكن يوجد شعراء حككوا حتى قيل عن قصائدهم حوليّة (كزهير بن أبي سلمى) اي تبقى لدى الشاعر عام كامل ينظر فيها، بل هناك من كان يعرضها وأي نقد إليها يغيّر مسارها حتى تصل إلى ذروتها التي تستقر فيها. (وفي العصر العباسيّ ايضاً مروان بن أبي حفصة) ولعلّ المتغيرات السياسة والدافع المادي من أهم عناصر تحكيك الاخير لقصيدته، ربما هذا العامل الموثر الذي دعا لهذه الطريقة أن لا تعيش كمدرسة وتستمر بالحياة، لكن إن مات ذاك الدافع هل يمكن أن تكون هناك مدرسة تحكيك للشعر العربي؟ وهل يكون تحكيك بغير العنوان القديم؟
مع جميع المستلزمات – إن جاز التعبير – في عصرنا الحالي متوفرة اي لا تحتاج القصيدة لحول كامل كي يحكّكها الشاعر لأن القصيدة لا تحتاج وقتاً لسفر صاحبها لناقد أو أديب، كما لا تحتاج لتفتيش الكتب للبحث عن معانٍ جديدة تبعث فيها روح الاشتقاق ولا إلى آذان موسيقيّة تحتاج لعالم بالبحور يبحث عنه في المدينة الفلانية أو تحت بطانة السلطان، كل هذه يمكن أن تلملم في مواقع التواصل الاجتماعي: نقّاد وكتّاب وأذن موسيقيّة وعلماء وأساتذة وهواة وقراء.. إلخ، في الوقت ذاته لا يحتاج الشاعر اليوم أن يحكك في القصيدة من أجل الدافع المادي لدى السلطان، كما
أن النشر يقيّد بتاريخ وليس رواة الشعر كما في السابق ويصبح التحكيك مصدر شك وانتحال كما راه طه حسين.
دكتور محمد سعيد العتيق، وضع بداية لتلك المدرسة وأعتقد أنها جراة في غاية الاهميّة جاءت من الثقة التي تكلّلت به نفسه على أنه شاعر يستمع لصوت القصيدة الجيدة، فقد كتب قصيدة غير العمودية، اتّسمت بمطلع لا يمكن أن يلائمها الصوت النثري أو أذن موسيقية سيابية حرة، بل أرادت أن تتنسق على اطار البحر المنسجم، لذا كان التحكيك فيها منفرداً على الرغم من أن القصيدة قد نشرت إلا أن العتيق اعاد عليها تحكيكه وزناً وهذا ما لم يحدث إذ من الممكن أن تكون القصيدة سابقاً قد صابها علل في الوزن أو المعنى ناظمها ذلك من خلال راي من ناقد أو سامع أو متذوق أو هو أدرك ذلك، لكن هي ليس على نوع الشعر إيقاعاً، فهذا شيء جديد، ربما سيتركه لنا العتيق.
إن أهم مميزات مدرسة التحكيك أن القصيدة تنتقل من الحرّ أو النثر الى العمود من دون تغيرات شاملة تعيب بالمعنى وتخلّ بالوحدة. وهذا ما نجح فيه العتيق حين غيّر إيقاعها ووضعها تحت بحر (الكامل). صحيح كانت التفعيلة في الحر من الكامل (متفاعلن) وأبقى على الضرب في ترفيله لحاجة أن الايقاع يصاحب المعنى من حيث اختيار المعاني الواسعة تعطي المتخيّلة عناوين تبحر به بين الايقاع والمعنى من دون أن يضع تشتّتاً في ذهن (السامع ـ القارئ) والسبب يعود للعتيق نفسه لانه اذا أحبّ.. أحب بعمق وصفاء من دون أن يخادن في ذلك الحب وكان الفطرة هي التي تجبله على:
ما زلتِ في قدِّ الـمقـامِ وفي النـدى
في رحلةِ التكوينِ، في نبعِ اليسوعِ
هذه المقاميّة المتنقلة بين مسافات الندى والتكوين ويسوع لا أعتقد أن العتيق جاء بها من عمق القواميس للغة العربية، بقدر ما تذوقها بذائقة الروح ونشوة النفس وكان الكون يدغدغه في هذه الكلمات لذا كان من اروع ما كتب في مطلع القصائد العربية وحين نقلها من الحرّ إلى العمودي، لم يحتج تغيراً شاملاً في كلمات مجرد حوّلها الى (صدر وعجز) عروض وضرب، مع أن الترفيل جاء للمجزوء في الكامل فإنه حافظ على التام وأعطاه ضرب (المجزوء) المرفل ولم يحكك في ايقاع الضرب وكانه يضرب الخيال مع عمق روحه بعمق تلك الزيادة (سبب خفيف) للتفعيلة: متفاعلن لتكون ضربها في التام: متفاعلاتن مع تحكيك مفردة (النخل، نبع) اليسوع والنبع لليسوع عطاء للجميع بينما تظل سيمولوجيا النخل تشير الى أبعاد الولادة والانطلاق وذلك الحليب واشارة الى القران الكريم بهزّ مريم جذع النخل.
في البيت الخامس ظلّت مفردة (جوعي) قابلة للتحكيك الإيقاعيّ لانها أخذت ضرب اخر (متفاعلْ) ضرب مقطوع مضمر ـ ربما اراد أن يضع من الايقاع معنى، على أن محرابه محراب جوع وهو مقطوع ويحتاج إلى صلة الهدية ـ من بين 13 بيتاً شعرياً، مع أن في الحرّ مفردة (صلّى) حككها في البيت مع مفردة (هدّى):
طيرٌ، تُجــدِّلُ منْ تلافيفِ الحــقولِ
سنابلاً هـدَّى على محرابِ جوعي
فالسنابل لا تُعطى بالصلاة، بل بالهدية لعلّ مخيلة العتيق اوسع في اختيار المفردة من حيث يجعلها كثير الهدايا او كعروس حين تزف لزوجها كانت هذه السنابل في محراب جوعه والبيت سبقه فيه تغيير معنوي يعطي لزف العروس:
تمــشي تهـــرُّ الطيـنَ انهــارًا على
لغةِ العيونِ وتستريحُ منَ الخشوعِ
فحكك (على هدل الغمام) الى (على لغة العيون). وهذه اشارة الى استغراق حبيبته ولون عينها فهو لا يساوي الغمام حتى لو هرّت دموعها طيناً فهي أقرب للربيع، فخفق خياله مع قلبه في صياغة اخرى قد تميط اللثام عن حب العتيق الرقيق وعلى عدم تحمل قلبه لوعة فراق. وبهذا السبب كان البيت الذي قبله ايذاناً لذلك التحكيك في تغييره من (نُدفا) الى (نتفاً) وان كان السياق يدل على البرود ونتف الثلج، لكن المفردة الاولى في الحر قد تدل على ندف القطن وكلاهما يشاركان في البياض إلا أن الثلج ارتعاشه حاجة الجسم الى الدفء والثاني ارتعاشه من الضرب لأن النداف يستخدم العصا في ندف القطن:
ضمّي استباحاتِ المُدَى وتقطَّعي
نُدفًا، ونامي بينَ اسرابِ الشموعِ
مع أن الاستباحات لا حدود لها في التقطيع الا النوم تحت السرب لا يفي فكان بينها وهي كذلك في الندف العصا بين القطن وفي الثلج الدف لا يكون إلا بين، وتكون هذه الظرفية متسعة للخلود للنفس. فيعطي للتحكيك مصداقية الدفء في حضن من اراده ان يتثلج ويرتعد من البرد..
يمكن أن تكون بداية لخلق مدرسة، ليس حولية، بل مدرسة تحكيك يمكن أن تخرج لنا درساً نقارن فيه بين الشعر الحر والشعر العمودي او النثر والحر او كلاهما مع العامودي، في خلق موثرات بين انطلاقة القصيدة من دون تحكيك وبين تحول القصيدة لايقاع آخر ومعاني وسيمولوجيا جديدة تربط الكلاسيك مع المدارس الحديثة وهذا ما حاوله محمد سعيد العتيق، وقد أراه نجح في تلك المحاولة. فالحياة تصنعها الرجال وكذلك الشعر..
تراتيلُ المطرِ
ما زلتِ في قدِّ المقامِ وفي الندى
في رحلةِ التكوينِ، في نبعِ اليسوعِ
بينَ العصافيرِ التي هجرتْ عرائــــشَها
على خفقاتِ روحي والدموعِ
ضمّي استباحاتِ المُدَى وتقطَّعي
نُدفًا، ونامي بينَ اسرابِ الشموعِ
وانا اوشّحُ وجهَكِ المنسيَّ بالماءِ
المقدَّسِ والاناملِ والربيعِ
تمشي تهرُّ الطينَ انهارًا على
لغةِ العيونِ وتستريحُ منَ الخشوعِ
طيرٌ، تُجدِّلُ منْ تلافيفِ الحقولِ
سنابلًا، هدَّى على محرابِ جوعي
قلبي يفتِّشُ عن ملامحِ طيفها
عنْ وخزةِ الذكرى وعنْ وعدِ الرجوعِ
رغمَ انكساراتي يفيِّقُني الهوى
يصبو الى تعويذةِ الولَهِ الرفيعِ
ما زلتِ شهقَةَ متعبٍ رسمَ التباسي
فوقَ جدرانِ الغيابِ على الضلوعِ
العشبُ يفلتُ منْ يديكِ رسائلًا
تبكي، ورائحةُ الصنوبرِ في ربوعي
وتوقَّفَ الشجرُ الامينُ عنِ الحراسةِ
والغناءِ وخلوةِ الوردِ البديعِ
ما زلتُ اسرحُ في السماءِ مع النخيلِ
اهزُّ عرشَ الشوقِ ابحثُ عنْ جذوعي
انا مذْ عرفتُ بانّها رحلتْ، وظِلُّ
حفيفِها قربي ارتعاشٌ في جميعي.
*كاتب عراقي.