التطبيع: تطويع للنظم الحاكمة الخائنة.. لا تطويع للشعوب العربية الشريفة..
د. جمال زهران*
تعتبر البحرين الدولة السادسة رسمياً التي تقيم علاقات تتضمّن اتفاقيات، مع الكيان الصهيوني. فقد سبقتها على الفور دولة الإمارات ومن قبل مصر، والأردن والسلطة الفلسطينية، على خلفية اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. بينما بقية دول الخليج الثلاثة الأخرى وهي المملكة العربية السعودية وعُمان وقطر في حالة علاقات فعلية دون إعلان رسمي أما الدولة السادسة فعلياً فهي موريتانيا في المغرب العربي، دونما أدنى الأسباب لتأسيس علاقات وتبادل دبلوماسي بين موريتانيا والكيان الصهيوني! ويبقى من الدول العربية (16) دولة من إجمالي (22) دولة عضو في الجامعة العربية، ليست لها علاقات رسمية، يمكن أن نسقط منها ثلاث من دول الخليج (السعودية – عُمان – قطر)، مؤكداً أنها ستعلن عن علاقات دبلوماسية رسمياً وقريباً، ولها علاقات فعلية، فتصبح الدول التي ليست لها علاقات من أيّ نوع مع الكيان الصهيوني، عددها (13) دولة فعلياً. أيّ أنّ الكيان الصهيوني أصبح له علاقات رسمية وغير رسمية مع ما يقرب من 40% من إجمالي عدد دول الجامعة العربية بكل أسف!
وهناك جدل كبير، حول السودان، وقرب توقيعها اتفاقية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم معارضات شديدة داخل دوائر السلطة الانتقالية، والدوائر الشعبية، والتشجيعات على الإقدام نحو هذه الخطوة من أطراف إقليمية، على خلفية المقايضة بحذف السودان من قائمة الإرهاب والحصول على معونات اقتصادية، والأغلب أنها ستقدّم من الإمارات حسبما يتردّد، مقابل التطبيع! بينما تبدو المواقف المتشدّدة من دول كالجزائر، وسورية ولبنان والعراق، والكويت، بخلاف الرافضين بشكل مبدئي.
إذن نحن أمام صورة غريبة، حيث تراجعت الثوابت وركائز الموقف الاستراتيجي العربي، التي صاغها مؤتمر القمة العربي في آب/ أغسطس 1967، وما استقرّ فيه على اللاءات الثلاث وهي: (لا للصلح، لا للاعتراف، لا للتفاوض). فضلاً عما حدث بعد ذلك في عام 2002، ومشروع السلام العربي الذي صدر في اجتماع القمة في بيروت. كما أنّ لجنة المقاطعة العربية للكيان الصهيوني في الجامعة العربية بدأت تتراجع عن أداء دورها في خدمة القضية الفلسطينية، وكذلك لجنة القدس برئاسة المغرب!
فتراجع الثوابت العربية، بفعل النظام المصري في عهد الرئيس السادات عام 1977، 1978، 1979، وما تلا ذلك، كان له أكبر الأثر على قبول الأطراف العربية على قبول فكرة التطبيع للتطبيع تحت الضغط الأميركي في ظلّ أسوأ رئيس في التاريخ الأميركي وهو دونالد ترامب، المتغطرس.
والسؤال المهمّ، هل بعد الانتشار الأفقي للعلاقات الصهيونية مع عدد من الدول العربية تصل إلى (9) دول رسمياً وفعلياً، وقد تصل إلى نصف العدد لو أوشكت السودان على الوقوع في دائرة التطبيع، بالإضافة إلى المغرب الذي له علاقات فعلية، ولا ينسى هنا أنّ قصر الصخيرات شهد مباحثات (موشي دايان/ حسن التهامي)، تمهيداً لزيارة السادات للقدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، يمكن الفصل بين النظم الحاكمة والشعوب العربية؟
بعبارة أخرى هل الأوفق أن نستخدم مصطلح العلاقات الصهيونية مع النظم الحاكمة والعربية سواء نادي الملوك والسلاطين، أو نادي الجمهوريات الاستبدادية، وليست العلاقات الصهيونية مع الدول العربية؟
من جانبي أرى أن العلاقات الصهيونية التي تمّت حتى الآن كانت مع عدد من النظم العربية الحاكمة، وليست مع الدول العربية، لأنّ الدولة تعني (شعباً – سلطة حاكمة – وإقليماً برياً وبحرياً وجوياً). حيث أنّ أحد أهمّ عناصر الدولة هو الشعب، وجميع الشعوب العربية ترفض التطبيع الشعبي، الذي لو تمّ لحصلت الدولة الصهيونية على الشرعية السياسية وتعني القبول الجماهيري العربي لوجودها في المنطقة. ومن ثم فإنّ الواقع يشهد بأنّ هذه العلاقات ومشروعات التطبيع هي علاقات فوقية، تقتصر على النظم الحاكمة سواء شملت الرئيس أو الملك أو السلاطين، أو الحكومات، ولم تصل بعد إلى الجذور، أيّ إلى الشعوب، وهو أمر بات في حكم المستحيل تماماً، أن تكون هناك علاقات فوقية.
ولتأكيد ما وصلنا إليه من نتيجة، وهي أنّ التطبيع الصهيوني هو، مع نظم حاكمة وطبقة سياسية مسيطرة، تسعى لضمان مصالحها والاستمرار في كراسي الحكم لأجل غير محدّد، وليست مع الشعوب الحقيقية، الإشارة إلى النموذج المصري. فعلى الرغم من أنّ مصر هي الدولة الأولى والأقدم تاريخياً في التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومرَّ على ذلك منذ زيارة السادات لـ «إسرائيل» (43) سنة، إلا أنّ حصاد التطبيع كان محدوداً. فإذا نظرنا إلى حجم العلاقات التجارية، فهي لا تتجاوز الـ (200) مليون دولار، طبقاً لأحدث التقارير، بخلاف عقود الغاز شراءً وبيعاً وتبادلاً! ولا يمكن كتابة اسم «إسرائيل» على أيّ منتج رغم اتفاقية الكويز التي تمّ إقرارها لتمرير التوريث من مبارك الأب إلى مبارك الابن، وفشل هذا المشروع باندلاع ثورة 25 يناير 2011، وتمّت الإطاحة بنظام مبارك وتوريثه!
بل إنّ جميع الكيانات والهيئات المصرية من نقابات ومجتمع مدني، ومجتمع مصري بكلّ طوائفه يرفض التعامل مع نظرائه الصهاينة، حتى في مجال الرياضة! كما أنه لا توجد مؤسسة شعبية مصرية لها علاقات مناظرة مع الكيان الصهيوني. ومن ثم فإنّ العلاقات المصرية الصهيونية، قاصرة على النظام الحاكم. وهكذا الحال مع جميع النظم الحاكمة التي تلت مصر في طريق التطبيع، حيث أنّ شعوب هذه الدول بعيدة عن التطبيع النهائي مع هذا الكيان الصهيوني. الأمر الذي يؤكد على ذلك الانفصال بين النظم العربية الحاكمة وبين الشعوب. فالنظم الحاكمة عربياً تعمل لحسابها والحفاظ على كراسي الحكم وإعادة إنتاج الطبقة السياسية المرتبطة بالتبعية مع الخارج الاستعماري (أميركا غالباً)، وذلك بالإقدام على عقد اتفاقيات التطبيع مع هذا الكيان الصهيوني، لدرجة أنه يمكن القول بأنّ هذه النظم الحاكمة خائنة للمبادئ والثوابت في القضية الفلسطينية والقدس، بينما تظلّ الشعوب العربية حافظة لهذه المبادئ والثوابت بإصرارها على رفض التطبيع نهائياً مع الكيان الصهيوني. ولعلّ ما ذهب إليه الإعلام المغرض في الدول المطبقة، من محاولات لتزييف الوعي لدى الجماهير، وتبليع الشعوب، الكيان الصهيوني وتحسين صورته قدر الإمكان، قد باءت جميعها بالفشل، لتظلّ هذه الشعوب العربية شريفة بحفاظها على القضية الفلسطينية وثوابتها، وحتمية تحرير بيت المقدس، وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وقد تسقط النظم الحاكمة المطبعة والمنفصلة عن الشعوب، آنذاك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.