سعياً إلى رؤية بلاغيَّة متجدِّدة نظرةٌ نقديَّة في ديوان «ومضة»
«أمين الذِّيب»، صاحب ومضات؛ والومضة تقود إلى ما يمكننا أن نتخيَّله
} الأستاذ الدكتور وجيه فانوس
أنْ تَنْكَبَّ كوكبة من الدَّارسين، اليوم، على الانشغال الجِديِّ بديوان «ومضة»، للشَّاعر الأستاذ أمين الذيب، الذي غادرنا قبل أسابييع قليلة؛ فما هذا إلاَّ من باب تأكيد المؤكد، «أنَّ الشَّاعر، أو المبدع، لا يموت ولا يغيب، طالما أنَّ نتاجه باقٍ بين أيدي القرَّاء وأعماله تحتل مكاناً في أبحاث الدَارسين وتحليلات النقَّاد».
وما هذه المحاولة، من جهتي، في واقع الأمر، سوى استمرار لمحادثة بدأت، بيني وبين العزيز أمين، قبل حوالي أربع سنوات؛ يوم كان يُحَضِّر لإطلاقِ رؤيتهِ في موضوع ما أسماه «الأدب الوجيز». تشاورت، يومها، وإيَّاه، وقال لي: «ما رأيك لو تأخذ بعض ما أعمل عليهِ من «ومضة»، أنموذجاً لدراسات نقديَّة؟ فقلتُ، حينها، «ومضة»، ما برحت مشروعاً أدبيَّاً غَضَّاً لكَ؛ وقد تتعرَّض، عند الدِّراسةِ النَّقديَّة، إلى سلبيَّاتٍ ما، قد لا يسرُّك ذكرها؛ بل قد يزعجك. فقال لي، «على العكس، تماماً، أنا أرحِّبُ بذلك، وأنا في مرحلة تجريب، وأحتاج إلى نقدٍ ينظر في ما أجرِّبه؛ وأنا، وبكلِّ تأكيدٍ، أتعامل مع الموضوع بعلمية وموضوعية». قلت له «لِيَكُنْ».
اليوم، وقد تركَ لنا الغالي «أمين» ومضته هذه، أمانةَ في عنق النَّقد، ووعداً في ضمير الأدب؛ لا يسعني إلاَّ أن أسعى إلى نظرٍ في ديوان «ومضة»، لأقدِّم قراءة لما يضمّه من معايير بلاغيَّة، قد لا يجدها الباحث في تضاعيف النِّتاج الأدبيِّ خارج نطاق ما أحبَّ «أمين الذِّيب» أن يطلق عليه مصطلح «الأدب الوجيز»، وينهض في فضاءاته داعياً إلى تكريس نوعٍ أدبيٍّ جديد.
سأحاول ما أمكنني إلى استكشاف آفاق بلاغيَّة، جذبتني في «ومضة»؛ وقد تجلَّت لي عبر ثلاثة تراكيب بلاغيَّة بعينها، رأيت أن أسمِّيها «بلاغة التَّناقض الدِّينامي» و»بلاغة اتِّساع حريَّة تنوُّع التَّركيب» و»بلاغة التَّراكم المتنامي»؛ والغرض الأبعدُ من كلِّ هذا، محاولةٌ في إعطاء رؤىً بلاغيَّةٍ جديدة، أو مفاهيم بلاغية جديدة، يمكن أن يستفيد منها الدَّرس البلاغيُّ العربيُّ من خلال «ومضة» أمين الذِّيب؛ إذ، ما اعتبره الذِّيبُ «الأدب الوجيز»، في محادثاتنا، رأى فيه مجالاً أدبيَّاً قائماً بذاته، ولا بدَّ من أن تكون له بلاغته الخاصة.
} أولاً: ومضة التَّناقض الدِّينامي
تنمو أذرع المدينة
وحده الوقت ينوء
الأرصفة لا تكترث
ينبني هذا النَّصُّ على موضوعة أساس؛ وهذه الموضوعة هي «نموُّ أذرعِ المَدينةِ»؛ وكل ما يتبقى من النَّصِّ، يظلُّ ضمن فاعليَّة تعميق موضوعة «نموُّ أذرعِ المَدينةِ».
يتفرَّع عن الموضوعة الأساس، ههنا، موضوعتان ثانويتان، «وحده الوقت ينوء» و»الأرصفة لا تكترث»؛ أمَّا الغاية من كلِّ واحدة من هاتين الموضوعتين، فتعميق صورة الموضوعة الأساس.
إذا ما كانت هذه هي البناية التَّكوينيَّة للنَّصِّ؛ فكيف يمكن أن يكون تفاعل عناصرها فيما بينها؟
يمكن الملاحظة، ههنا، أنَّ نموَّ أذرع المدينة، يحرِّك الوقت الذي ينوء؛ وأنَّ الوقت الذي ينوء، يحرِّك، بدوره، الأرصفة التي لا تكترث. وإنَّ مستقبلَ النَّصِّ، ضمن هذه الرُّؤية، أمام تناقض ديناميٍّ حادٍّ. النّمو يقود الى أن ينوء الشَّيءُ، أي يتعب؛ فالنُّموَّ، في سياق هذه الرُّؤية، أمر متعب؛ وإذا ما كان النُّموُّ، عادةً، من الأمور المريحة، إذ فيه تجدُّد الحياة ونماؤها، فإنَه في هذه «الومضة» يدعو إلى التَّعب، والتَّعبُ موجعٌ، وفي الوجعِ معاناةٌ يمكن أن تقود إلى الموت؛ ثمَّ إنَّ هذه المعاناة، أو الوجع أو حتَّى الموت، الموتَ، لا تجدُ من يكترث لها. الارصفة لا تكترث. وما هذا برمَّته إلا نتاج فعاليَّة بلاغيَّة لتناقض دينامي متحرِّك ضمن انبناءِ التَّناقض.
} ثانيا: ومضة اتساع تنوّع حرية التركيب
الصَّمت
ما يسبق الانبعاث الحثيث
عذريَّة الكون
كلام يشتهي معناه
الفكرة الأساس في هذه «الومضة»، فكرة الصَمت؛ وكلُّ ما يتبقَّى، ليس سوى تعميقات على هذه الفكرة.
تنهضُ بنائيَّة الومضة على ثلاثة محاور متفاعلة فيما بينها؛ أولها «الصَّمت» وثانيها «عذريَّة الكون» وثالثها «ما يسبق الانبعاث» ورابعها «كلام يشتهي معناه». ويمكن أن تتأتَّى الفاعليَّة البلاغيَّة ههنا، من خلال الإمكانيَّات المتعدِّدة والمتنوِّعةِ لتركيب صورِ مفهومات بلاغيَّة غير محدودةٍ؛ من مثل «الصَّمت كلام يشتهي معناه» و»الصَّمت عذريَّة الكون» و»الصَّمت ما يسبق الانبعاث الحثيث» و»ما يسبق الانبعاث الحثيث كلام يشتهي معناه» و»ما يسبق الانبعاث الحثيث عذريَّة الكون» و»عذريَّة الكون كلام يشتهي معناه»، وقس على ذلك كثيراً.
يجدُ مستَقْبلُ «الومضة» نفسه أمام فاعليَّة بلاغيَّة قلَّ أن تسنَّى لها أن تكون ضمن المفاهيم التَّقليديَّة في البلاغة العربيَّة؛ كما يجدُ، هذا المُسْتَقْبِل، اتساع تنوُّع حريَّة التَّراكيب، وكلُّ هذا يكونُ نتيجة تشظيَّاتِ «الومضة» التي اطلقها النَّص.
} ثالثا: ومضة التَّراكُم
السَّماء
عيون الفقراء
وحدها
تمطر
ينبني النَّصُ على موضوعة «عيون الفقراء»؛ إذ تقدِّمُ الأساسَ؛ وما يتبقى ليس سوى تعميقاتٍ على هذه الموضوعة.
يتكوَّن التَّركيب البنائي، ههنا، وفاق تراتب أساسه «عيون الفقراء»، ينهضُ على هذا الأساس موضوعة «السماء»، وتتربَّع، تالياً، موضوعة «وحدها تمطر». وتتحقَّقُ الفاعليَّة البلاغيَّة، ضمن هذه الرُؤيةِ، من خلال أنَ «السماء» مطرحٌ تتراكم فوقها «عيون الفقراء»؛ و»عيون الفقراء»، ههنا، هي التي تمطر، وليست «السَّماء». هكذا، يمكن أن يشكِّلُ تراكم الصُّور البلاغيَة، جمالية مفهومية رائعة.
رابعاً: مفهوم بلاغة الومض
أظنُ، بل أوصي، أنَّه يمكن اعتماد «ومضة أمين الذيب»، منطلقاً لتقعيدٍ بلاغيٍّ وجماليٍّ لمفاهيم وتقنيَّاتٍ جديدة في عالم الشِّعر.
يمكن الانطلاق من نتائج هذا التَّقعيد، لمتابعتها في مجالات جديدةٍ ومتجدِّدةٍ من معطيات « الادب الوجيز» في النَّثر، وخاصَّة في ميادين القَصِّ.
أَصِلُ، من هنا، إلى تقديم دعوة مباشرة للدَّارسين، للعكوف على «ومضة أمين الذيب»، قراءةً ونشراً وتحليلاً واستنتاجاً وتقعيداً؛ إذ أظنُّ أنَّ أمين الذِّيب، يدعونا، يغرينا، يشجِّعنا ويتمنَّى علينا، أن نتصوَّر ما يمكن أن نستخرجه عبر موضوعيَّة تحليلاتنا.
«أمين الذِّيب»، صاحب ومضات؛ والومضة تقود الى ما يمكننا أن نتخيَّله ضمن منطق الإبداع الفنِّيِّ الجماليِّ؛ و أن نعتمد هذا «الدِّيوان»، منطلقاً لفهمٍ بلاغيٍّ جديد.
أُفَضِّلُ، من ناحية أخرى، أن اُطلق على هذا الأدب الوجيزِ، «أدب الومضة»؛ استناداً إلى نقاش دار بيني وبين الاستاذ أمين الذيب منذ ثلاث سنوات. قلتُ له، «الوجيز يختلف تماماً عن مفهوم الومضة؛ إذ «الوجيز»، بالمفهوم البلاغي والتَّقليدي، فيه اختصار وفيه حذف؛ أمَّا «الومضة»، وخاصَّة عند أمين الذِّيب، فلا فيها حذف ولا اختصار، بل تكثيف شديد جداً يطلق شراراتٍ تنير الرُّؤى.
لئن انزرع جسدُ «أمين الذِّيب»، في تراب هذه الارض؛ فإنَّ «ومضاته» النَّابتة من تربته المعطاء، ستعبق بخوراً يملأ الأرضَ؛ وكم سنحتاج الى ومضاته.