تربيةٌ ومواطنيةٌ و… «أديان»!
د. علي خليفة*
لم أعد أذكر من عرّفني على جمعيّة «أديان» أو من ذكر اسمي أمام العاملين فيها: أحد الأساتذة الجامعيين أم أحد الرفاق العاملين في منظمات أو جمعيات المجتمع المدني؟
فكان في مبتدأ التعارف تعاونٌ، ثم تحفّظ، ثم ريبة متبادلة وجفاء وانقطاع. ثم كان اجتماع الظروف مجدّداً للالتقاء في مشروع تطوير المناهج في المركز التربوي للبحوث الإنماء، حيث رفضتُ أن أشهد على التضحية بالمواطنة كمنظومة فرديّة مكتملة في ذاتها، ومكتفية بمكوّناتها في سياقها الاجتماعي والسياسي، وإلحاقها بالانتماء الديني والترويج للإختلاف على قاعدة تعدّد الثقافات في مجتمعات هذا الشرق، بما يمنع من تحقيق الوحدة القائمة على الرابطة القومية (لا الدينية) وما يلزمها من اندماج اجتماعي. وكانت تجارة الأديان في جمعية «أديان» قد حطّت رحالها في وزارة التربية كما في المركز التربوي، وفلشت غانمةً أموالاً وفيرة من المجلس الثقافي البريطاني وجمعيات ذات أصول دينية في أميركا الشمالية. ثم وقع الصدام الأكبر غداة تسلّل أجندة عمل الجمعية إلى برامج إعداد المعلّمين، منذ ما يناهز الثلاث سنوات، ومواجهتي بشراسة وبشكل علني، نشاطاً يعتبر تصوّراتنا عن «الصهيونية» وجهات نظر لا أكثر، بما يمهّد لإعادة تقديمها لأبنائنا بأطباق مختلفة ومغلّفة حيناً بالانفتاح على الآخر وأحياناً بتسويق أفكار اللاعنف.
سأعرض في ما يلي بعض التفاصيل المتعلّقة بالمحطّات الثلاثة لعلاقتي بجمعية «أديان»، بناءً على طلب الأستاذة رامزا صادق التي سألتني أن أكتب عن تجربتي مع الجمعية وأسباب مهاجمتي إياها، علماً أنّ المعترضين على عمل الجمعية كثر، وطالت الإنتقادات عملها على منهج الفلسفة كما منهج التربية الوطنية وأكثر، وتقلّصت مظلّة الغطاء السياسي للجمعية وشبكة المنافع التي كانت فرضت وقعها بشكل وقح، قبل أن تردّد أروقة وزارة التربية والمركز التربوي العبارة المشهورة ذاتها التي تتدلّى على حائط السراي الكبير: «لو دامت لغيرك لما آلت إليك».
يرد اسمي في إحدى أدلة الجمعية، بعنوان «مواطنون من أجل الوحدة والسلام» (2014)، بصفة «باحث وخبير»، من ضمن مجموعة من الخبراء والناشطين الذين تمّت الإستعانة بهم من أجل تقديم مادة معرفية حول المواطنية. وقد قمتُ بالفعل بتغذية الدليل بأنشطة عن المواطنية والديمقراطية، وكتابات لسليم نصر وجورج قرم وأحمد بيضون وفرنسوا أوديجييه وفرديناند تونيس، جلّها مقتبسٌ من كتابي بعنوان «وطنٌ بلا مواطنين» (دار الفارابي، 2009) وتدعو إلى اعتبار المواطنية مشروعاً مدنيّاً، يتخطّى الانتماءات المتعدّدة للهوية في السياق الإجتماعي، ومنها الانتماءات الدينية للأفراد. لكن الدليل يحتوي أيضاً على مقاربات لم يكن لي فيها أيّ إسهام كالمواطنية المتعدّدة الثقافات أو الثقافية أو الحاضنة للتنوع الديني.
فرضت جمعية أديان أجندة خاصة بها على وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء فتسلّلت إلى ورش التطوير التربوي والسياسات التربوية من خلال تبنّي مفهوم ملتبس هو مفهوم «المواطنة الحاضنة للتنوّع الديني». هذا المفهوم يبدو بظاهره لطيفاً، نظيفاً، خفيفاً، مطواعاً. فهو يدعو إلى «قبول الآخر» ولكنه يحاكي العقلية اللبنانية المتوجّسة؛ يتوخّى «تبنّي جسور للتلاقي (ولكن) بين متنوّعين متميّزين». هذا المفهوم يقوم إذاً على الاختلاف، التنوّع والتميّز على قاعدة دينية بالأساس ونزعة منغلقة على ذاتها. وهو نسخة مجترّة ومسطّحة عن المواطنة الفارقية وتسعى إلى تكريس اللامساواة في الحقوق الممنوحة للمواطنين الأفراد في لبنان حفاظاً على حقوق الجماعات الطائفية التي ينتمون إليها.
وهذا المفهوم يقوم على إثارة الشعور بالخصوصيّة المفرطة تجاه الآخر، أي الغيرية، لا سيما على قاعدة الانتماءات الدينية والثقافية للأفراد، وهو يشكّل النظير للصهيونية التي آثرت تحويل الوعي الديني اليهودي إلى ثقافة ووعي اجتماعي وأكثر… وصولاً إلى الوعي القومي، وتأسيس الرابطة القومية على قاعدة الانتماء الديني. وكلّما تكرّس التمايز الطائفي والثقافي بين المكوّنات الإجتماعية، كلما أصبح مشروع التطبيع ممكناً، وهو ما يتماشى تماماً مع أجندة المانحين والمموّلين الذين تتغذّى منهم جمعية أديان في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وبالعكس، كلّما انصهر المجتمع اللبناني في بوتقة وطنية تتجاوز الاختلاف الديني المبالغ فيه، والتنميط المعمم، ومشاريع إثارة الخصوصية المفرطة والمموّلة بأجندات خارجية، كلما أصبح مشروع التطبيع صعباً وبعيد المنال.
يظهر اليوم، بما لا يترك مجالاً للشكّ، كيف أنّ مشروع المواطنة الحاضنة للتنوع الديني، هو مشروع يُراد منه دسّ سمّ التطبيع الخفي في طبق التطوير التربوي والإعداد. ولم يكن الأمر بخافٍ منذ لمسنا التضخيم المفرط في افتعال الإختلافات بين المجموعات الإجتماعية، ومجاهرة مؤسسة أديان برفض «الإنصهار» (باعتباره أمراً سلبيّاً)، في مخالفة واضحة لوثيقة الوفاق الوطني التي تنصّ حرفيّاً على «إعداد المناهج وتطويرها بما يعزّز الإنتماء والإنصهار الوطنيين» (وثيقة الوفاق الوطني، البند (هـ)، إصلاحات)، والتسويق لوجود خصائص ثقافية للجماعات الدينية في لبنان… إن تجاوز ما ينصّ عليه الدستور يظهر جليّاً في القرار 607/م/2016 على خلاف ما كان قائماً في الخطة التربوية الإنقاذية للنهوض بقطاع التربية والتعليم (2011).
وبالعودة إلى دليل المدرب الصادر عن معهد المواطنة وإدارة التنوع التابع لمؤسسة أديان، يرد نشاطٌ تحت عنوان «مكتوب عالجبين»، موضوعه «الصور النمطيّة» حيث يستعمل المتدرّبون «أوراقاً مكتبية لاصقة صغيرة مكتوبٌ عليها صفات مسبقة»… هكذا يتم تعريف النشاط التدريبي. ومن بين الأهداف المعرفية المعلنة للنشاط: «إدراك المشارك أنّنا نقوم جميعاً برمي صور نمطية على الآخرين، وكلّنا منمّط من الآخرين أيضاً»؛ فضلاً عن «فهم المشارك الأثر السلبي للصور النمطيّة ومدى أذيّتها للمتلقي» ومن بين الأهداف المهاراتية «يتعاطف المشارك مع نفسه ومع الآخرين». ومن ضمن الأهداف القيمية والعملية للنشاط «يلتزم المشارك تقزيم صوره النمطية وإعادتها إلى ما هي عليه: مجرّد وجهة نظر مبنية على خبرة صغيرة، لا تشكل الحقيقة»…
جيد. ومن بين الصفات التي يقترح النشاط أنّها تشكّل مادةً للتنميط، ترد كلمة «الصهيوني» كصفة تمّ دسّها بشكل مريب، كالسم في دسم الطبق الذي يقدّمه النشاط… مطلوبٌ وفقاً لأهداف النشاط التعاطف مع من نحمّله هذه الصفة، وتقزيم الصورة النمطية التي تستدعيها… هي مجرّد «وجهة نظر» بين الناس الذين كلٌّ منهم يدّعي امتلاك كامل الحقيقة. انتهى النشاط. ولكن تمّت مجابهة إدراج هذا النشاط في برنامج إعداد المعلّمين.
واليوم، ماذا يبقى بيني وبين جمعيّة «أديان»؟ يبقى تمايزٌ أكيد، وواضح، وصريح بين من ينظر إلى المواطنين كأفراد بمعزل عن أديانهم وطوائفهم ولزوم الإفصاح عنها، ومن ينظر إليهم، كما يشير اسم الجمعية، كراعايا أديان وطوائف.
*أستاذ التربية على المواطنية في الجامعة اللبنانية