ما هكذا يا سعد تورد إبل التكليف والتأليف…
} علي بدر الدين
لا يعني خروج سعد الحريري من اعتكافه عن موقع رئاسة الحكومة، وإعلانه المفاجئ بالترشح مجدّداً إليه، لأنه على ما يبدو لم يعد قادراً على فراقه، وقد قاده الشوق إلى حضن السراي الدافئ، لاعتقاده، وربما هذا من حقه، أنّ طريقه إليه مفروشة بالورد والسجاد الأحمر، وكأنّ العراقيل أزيلت من أمامه، وتعقيدات التشكيل وشروط القوى السياسية قد تمّ حلها، وبقدرة قادر تخلت عن حصصها وحقائبها، وتحديداً المسماة بالسيادية، أو أنّ، وهذا هو الأهمّ، المصالح الدولية والإقليمية تقاطعت وحصلت المصارحة والمصالحة والتفاهمات حول ملفات الصراعات والقضايا والمناطق المتنازع عليها، ومنها لبنان، ما دفع
بالحريري إلى تلقف بعض الإشارات الخارجية ظناً منه أنها خضراء أو رغب في أن تكون كذلك، وعاجَل من يعنيهم بإعلان ترشحه لرئاسة الحكومة، ومباغتة أكثر من فريق داخلي وخارجي ورمي الطابة الحكومية في مرمى الجميع قبل بدء عملية غربلة الأسماء لهذا المنصب. بذلك يضع المغربلين والطامحين أمام الأمر الواقع ومحاصرتهم وإحراجهم لإخراجهم من الحلبة.
القنبلة الصوتية التي رماها الحريري نجحت في إعادة الحراك الحكومي إلى حيويته، بعد أن دخل في «الكوما» أو أقله في جمود غير معلن وغير مسبوق، وكأنّ البلد في أفضل أحواله، وفي وضع طبيعي جداً من دون حكومة والأمور ماشية والبلد ماشي والشغل ماشي، ربما
أراد الحريري المناورة، وجسّ نبض الشركاء في السلطة السياسية وفي عملية التكليف والتأليف، ومحاولة إحياء المبادرة الفرنسية مع بعض التعديل، ولطمأنة البعض الآخر.
غير أنه تسرّع في عزف قراره منفرداً، ومن دون التشاور مع أحد حتى زملائه في نادي رؤساء الحكومات السابقين، بعد ان سبقه نجيب ميقاتي إلى حلبة الترشح، في حين أنّ فؤاد السنيورة ورقته محروقة على الآخر، وتمام سلام فرصته ضئيلة في هذه المرحلة، كما أراد الحريري إيصال رسالة قاطعة حاسمة أنه لن يقبل بعد الآن التنازل عن عرش الرئاسة لأيّ كان وتحت أيّ ظرف أو عنوان، وأنّ صهوة حصان الرئاسة لا تليق إلا به وقد فصلت على قياسه.
أخطأ بإعلان ترشحه، بعد أن استقال وحكومته تحت ضغط الشارع، ورفضه لعروض وتمنيات ودعوات لإعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة أكثر من مرة، عندما تفرّد بقراره، أقله على مستوى الداخل، وعند فرضه لشروط مسبقة، والتصويب، على الحلفاء المفترضين أو الأخصام الشركاء في تأليف الحكومة، وهو من دونهم لا يستطيع تشكيل حكومة، إلا بضغط الخارج الإقليمي والدولي «الشديد القوي»، وحتى لو حصل هذا الضغط فدونه عقبات ومصالح مشتركة ليست متوفرة راهناً، وقد يكون لبنان في مكان آخر عندما يحين الموعد.
من يريد مصلحة الوطن والشعب لا يبالغ في وضع الشروط ذاتها التي حالت دون تأليف حكومة مصطفى أديب، ولا يرفع السقوف ولا يستند على مقولة «عرف الحبيب مكانه فتدلل»، ولا بالقول «إما أنا أكلَّف لتأليف الحكومة أو لا حكومة وعلى لبنان السلام»!
لماذا لا نكون أكثر واقعية، ونقلب صورة المشهد الحكومي، من إيجابية هبوط الوحي من فرنسا أو غيرها على الحريري، ليفاجئ القريب قبل البعيد بقراره، وينتظر حتى موعد حلقة حوار تلفزيونية ليفجر قنبلته! وربما أخذه الحماس الزائد في آخر الحلقة التي قصف فيها الجميع ولم يترك له صاحباً.
وهم أنفسهم الذين سيتشاور معهم وقد يشكل الحكومة بالتفاهم منهم او مع بعضهم، مع أنّ التشكيل، رغم هذا الضجيج المستجد والإيحاءات الإيجابية المفتعل منها أو المصطنع، غير مطروح جدياً، ولم تكتمل عناصره وشروطه.
ما يحصل هو أشبه ما يكون بمن يحضّر المعلف، على أمل إحضار الحصان، لا يستبعد أن يكون إطلاق قراره بريئاً ومن عندياته لإنجاح الحلقة وإشغال الشعب المهموم والمظلوم والمنهوبة حقوقه وأمواله ولقمة عيشه، بفضل سياساته وشركائه في الحكومات سواء التي ترأسها أو التي تأسها أحد أعضاء «نادي السابقين».
ما الذي تغيّر بين ليلة وضحاها، حتى تنقلب الصورة الحكومية تكليفاً موثوقاً فيه، مع أن لا جديد على المستويين الإقليمي والدولي، وأنّ الاهتمام لا يزال منصبّاً على الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن يفوز فيها، الديمقراطي أو الجمهوري. كما على كورنة الرئيس الاميركي ترامب، وإنٍ كان مرضه جدياً أو تمثيلاً. وعلى تطورات حرب أرمينيا وأذربيجان.
وعلى مستوى الداخل، المواقف ذاتها لم تتبدّل، بل زادت تعقيداً بعد قصف الحريري لأكثر من فريق، وكيْل الاتهامات من دون استثناء أحد، ولم يوفر صديقاً أو حليفاً أو خصماً أو فريقاً، وكأنه لا يريد تكليفه لتشكيل الحكومة.
حتى المبادرة الفرنسية التي يتظلّل بها، وُضعت على لائحة الانتظار حتى الموعد الممدّد لمؤتمر مساعدة لبنان إلى الشهر المقبل.
لا مستجدات داخلية، يمكن وصفها الإيجاببة حكومياً، إلا إذا اعتبرنا أنّ دعوة رئيس الجمهورية إلى الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية المكلف بتشكيل الحكومة كذلك، والتي أعقبها مباشرة على الهواء، قرار ترشيح سعد الحريري المشروط، والذي يحاول من خلاله استباق فرض اسمه للتكليف في الاستشارات النيابية باعتباره المرشح الوحيد ولا قبله ولا بعده أحد. وقد نجح بنسبة كبيرة في تحريك الملف الحكومي واستجرار قوى صديقة وحليفة ومستقلة يميناً ويساراً إلى ردود فعل على استهدافها واتهامها والتصويب عليها، مما ساهم في بلورة مواقفها على قاعدة التكتيك والمبدئية في التعاطي مع الحريري، وتحويلها إلى جدية وثابتة بعد الاستشارات والتكليف إذا حصلا في الموعد المحدّد.
لا المعطى الدولي، ولا الإقليمي ولا المحلي، مقنع بأنّ التكليف والتأليف باتا على مرمى حجر، وكلّ ما يحصل بشأن الحكومة، لا يعدو كونه دوراناً في حلقة مفرغة، ومراوحة في نفس المكان، بانتظار الزمن الآتي، عندما تتقاطع مصالح اللاعبين الكبار بمصائر الدول الضعيفة والشعوب الفقيرة وحكامها المرتهنين التابعبن الذين باعوا أنفسهم وأوطانهم وشعوبهم بأبخس الأثمان، أو كما يُقال بثلاثين من الفضة في سوق النخاسة…