أولى

مقاتلو الفصائل المسلحة السورية: انكشاريو «السلطنة» التركية الجديدة!

 د. عدنان منصور*

في الأول من هذا الشهر، وفي كلمة له مع بداية العام التشريعي الجديد للبرلمان التركي، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان، تمسّك بلاده بمحافظة إدلب، وعدم التخلي عنها لأسباب عديدة، منها حماية البلاد من تسلل الإرهابيين، وتوفير الأمن للنازحين المدنيّين في المنطقة!

وقال إنّ هدف تركيا، هو وقف الهجمات، وجعل المنطقة والحدود التركية آمنة.

كلام أردوغان في البرلمان التركي، جاء بعد توقف المفاوضات على مستوى الخبراء العسكريين بين روسيا وتركيا، والتي اقتصرت حتى الآن، على جولة واحدة جرت يومي 15 و16 أيلول من الشهر الفائت، حيث رفض الأتراك بشكل مطلق وحاسم، الاقتراح الروسي القاضي بسحب القوات التركية من أربع نقاط رئيسة من جنوب طريق اللاذقية ـ حلب، والذي يُعرف بـ M4.

تركيا قرّرت الحفاظ على قواتها بحكم الأمر الواقع، والاستمرار في احتلال أجزاء في العراق وسورية وليبيا، والتواجد في لبنان (من خلال القوات الدولية اليونيفيل)، وفي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى ضمن بعثة الأمم المتحدة العاملة فيهما، والإصرار على بقائها العسكري في شمال سورية، لا سيما في محافظة إدلب، بذريعة وجود تنظيمات إرهابية كداعش، وفصائل كردية عديدة أبرزها:

حزب العمال الكردستاني PKK، و«قسد» (قوات سورية الديمقراطية)، وغيرها، ما يهدّد بزعم أنقرة أمن واستقرار تركيا.

 لكن أن تقوم تركيا، بنقل مقاتلين سوريين وغير سوريين، من الفصائل المسلحة الإرهابية إلى ليبيا، وقبلها الإتيان بعناصر إرهابية من أنحاء العالم للقتال ضدّ النظام السوري، وبعد ذلك إرسال جماعات أخرى منهم الى ميادين القتال في أذربيجان، ونشرهم على جبهة الحرب الأرمينية ـ الأذربيجانية، فهذا يسقط بالكامل الحجج التركية الواهية من أساسها في محاربة الإرهاب، ويكشف مدى النفاق، وزيف ادّعاءات القيادة التركية، من أنّ قواتها المحتلة لأراض سورية، تهدف الى محاربة الإرهاب، وتأمين سلامة تركيا وحدودها.

لقد تحوّل المقاتلون الإرهابيون، الى فصائل في يد تركيا، تديرهم، وتحرّكهم، وتأمرهم، وتوجههم، وتستخدمهم أينما كان، وكيفما تشاء، تحوّلهم الى «انكشاريين» من طراز جديد، يقاتلون خارج بلدانهم من أجل مصالحها وأهدافها التوسعية، ومصالحها الاستراتيجية، وهم ينفذون سياساتها، ويزيدون من شهيّتها التوسعية خارج حدودها.

 يأتي هذا في الوقت الذي تعزز فيه تركيا من احتلالها العسكري لإدلب وحواضرها، بأكثر من عشرة آلاف آلية عسكرية متنوعة، بالإضافة الى الحشود العسكرية التي انتشرت في الآونة الأخيرة.

 هل يعلم مقاتلو الفصائل الإرهابية المسلحة، الذين ارتموا في أحضان تركيا وغيرها، أنهم ليسوا إلا أداة في خدمة العثماني الجديد، يؤدّون فريضتهم له، جاعلين أنفسهم له مطية يركبها في أيّ وقت، مقابل حفنة من المال، يدفعها لهم كمرتزقة؟! مال يخضع للعرض والطلب حسب المهمات الموكولة إليهم، والأماكن التي سيتواجدون فيها وفق أوامر سيدهم.

أين هي «وطنية» و«عروبة» الفصائل المسلحة السورية التي ارتمت في أحضان التركي، والتي حاربت النظام السوري منذ سنوات، وما هي حجتها اليوم عندما ترى المقاتلين والإرهابيين، ينغمسون في حروب لا شأن لهم بها. إلا لكون سيدهم التركي يريد منهم ذلك! هذه الفصائل تثبت مرة أخرى وبشكل قاطع، أنها ومنذ اليوم الأول لاندلاع القتال في سورية، ما كانت إلا مجموعات عميلة، مأجورة، تحرّكها قيادات مرتزقة مدفوعة الثمن من الخارج. وها هي اليوم. تحارب نيابة عن تركيا، بدماء عربية، تزجّ نفسها، وتنغمس في أتون حرب لا ناقة لها ولا جمل.

 فليفهم المواطن العراقي والسوري واللبناني والليبي، وكلّ مواطن عربي، تورّط في الصراع الإقليمي، وغرزت أقدامه في المستنقع السوري والتركي. انّ تركيا التي تحمل في الشكل، شعارات براقة، ليست في الحقيقة إلا وسيلة لتطلّ منها على العالمين العربي والإسلامي، لنسترجع الماضي، «وأمجاد» السلطنة العثمانية، التي عانت منها الشعوب التي رزحت تحت نيرها، وحصدت منها الويلات، والكوارث والفقر، والظلم والاستبداد.

السلطان العثماني الجديد يطلّ برأسه مجدّداً، يحارب بمرتزقته من «الانكشاريين» الجدد، الذين جلبهم من هنا وهناك، ليوسّع دائرة نفوذه على امتداد العالم الإسلامي، عله يظفر بقيادته، ويتوّج نفسه «خليفة»، حامياً له، و«راعياً صالحاً للحرمين الشريفين في مكة والمدينة!

وما شعب لبنان إلا واحد من بين الشعوب التي عانت الأمرين من الاحتلال والاستبداد العثماني، لكن أن نجد في الوقت الحاضر، بعض اللبنانيين المغامرين المتحمّسين، يشدّهم «الحنين» إلى السلطنة العثمانية، في ضوء حسابات ضيّقة، ومصالح شخصية، وطموحات فردية، وتطلعات سياسية، وتزاحم على زعامات مستقبلية، ناسين الويلات والتركة الثقيلة التي خلفتها السلطنة العثمانية وراءها، وقوافل الشهداء الذين سقطوا على مدى 400 عام، على يد سلطات الاحتلال العثماني، التي كبّلت شعبا بأكمله، وألحقت به ما ألحقته من فقر وذلّ وظلم!

هل نسي هذا البعض من اللبنانيين، ما حلّ بأجدادهم؟! وهل كانوا أوفياء لهم ولشهدائهم كي يزحفوا اليوم على بطونهم، مهرولين ومستعطفين ومهللين، وهم يغازلون ويباركون الدور العثماني الجديد، من زاوية العصبية الدينية والمذهبية!

لينظر هذا البعض ببصيرتهم، الى أنّ ما تفعله تركيا في العراق، وسورية، وليبيا، ليس حباً بشعوب هذه الدول، ولا حرصاً على استقلالها، واستقرارها، وسيادتها، ومستقبلها  ومصالحها أو أمنها، بمقدار ما هي تبحث عن نفوذها الذي فقدته منذ قرن، والعمل على قضم مناطق عربية في سورية والعراق، وضمّها إليها عن طريق القوة، بذريعة أنها جزء لا يتجزأ من السلطنة العثمانية المنقرضة، سلخت عنها بموجب اتفاقية سيفر  Sèvresعام 1920، وبعدها اتفاقية لوزان Lauzanne عام 1923.

انها شهية التوسّع العثماني الجديد، فحذار من الرهان عليه، أو على سياساته «البريئة»، التي لن تجرّ لشعوب منطقتنا إلا المزيد من العنف، والاقتتال والفوضى، وعدم الاستقرار.

وما يحصل اليوم في ناغورني قرة باخ، والعراق وسورية وليبيا، وما تقوم به تركيا ومرتزقتها المنضوين تحت أجنحة الفصائل السورية وغيرها، وقتالهم في القوقاز، إلا الدليل الحي، على مدى الارتهان والعلاقة الوثيقة، التي تربط تركيا بهذه المجموعات والفصائل المسلحة التي تعمل في خدمتها

هذه الفصائل المسلحة التي دمّرت بلدانها، وارتضت لنفسها أن تكون عناصرها بمثابة «الانكشاريين» الجدد، لا بدّ أن تعي أنّ علاقتها بتركيا، ليست إلا علاقة بين سلطان وعبد، وآمر ومأمور، ومموّل ومرتزق. وما استقدام تركيا للمسلحين الإرهابيين المرتزقة وتجميعهم من أنحاء العالم، للقتال ضدّ النظام في سورية والعراق، وتزويدهم، بوسائل الدعم العسكري والمادي واللوجستي والإعلامي كافة، إلا ليصبّ في صالح الأهداف التركية، وتطلعاتها التوسعية، كي تصبح في ما بعد، الدولة الإقليمية الكبرى دون منازع في منطقة «الشرق الأوسط».

لبعض المندفعين المهرولين اللبنانيين باتجاه «الباب العالي» نقول: لا تجعلوا أنفسكم في زمن السلم عهدة بيد التركي، حتى لا تكونوا في ما بعد، كبش فداء لسياسة السلطان وقت الأزمات والحرب! وخذوا أيضاً العبرة من الذي جرى في سورية، وليبيا، والعراق واليمن، وأذربيجان وأرمينيا

وغيرها، إذ لا مكانة ولا دور للحملان في حديقة الذئاب!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى