أنت في لبنان.. ليس سهلاً أن تكون!!
} زياد كاج*
ليس سهلاً في لبنان أن تكون مسلماً أو مسيحياً؛ كما أنه ليس سهلاً عليك أن تكون على فرع من تلك الفروع : أكنت سنياً، أو شيعياً، أو درزياً، أو علوياً، أو إسماعيلياً، أو حتى بهائياً. وليس سهلاً في لبنان أن تكون مارونياً، أو أرثوذكسياً، أو كاثوليكياً، أو بروتستانتياً، أو أرمنياً… وأبواب السفارات مشرّعة، والسماء الواحدة شبه مشاع. أما التراب فمتعدّد متلوّن ومتحوّل على شاكلة ساكنيه.
في لبنان مكتوب على كل إنسان أن ينتمي الى «ملّة» منذ الولادة حتى آخر وسادة. يمشي وملته كالظل وصاحبه. وكم من مستقرات عندنا والتراب واحد؟ فالمشوار طويل – قصير لكنه عسير. لأن العيش في بلد يتعاطى الناس مع بعضهم حسب أسمائهم وأماكن عبادتهم والقرى التي أتوا منها.. لهو بلد لا يعوَّل عليه ولا على ساكنيه. تسكنهم لعنة وجودية أبدية. ولا تغشنك كثرة دور العبادة، فالناس هنا في خدمة «مصالح خصخصة السماوات» وليس في خدمة الإنسانية الجامعة.
ليس سهلاً أن تكون مسلماً في بلد «تتلطى» فيه ثماني عشرة ملة والحبل عالجرار. ستسبح وسط بحر هائج – ومخيف أحياناً — مهما كان قلبك طيّباً وعامراً بالإيمان. «أنت الآخر يا أخي» و»أنت المختلف» و»أنت الخصم» وعليك ومعك الخلاف. جميل أنك تشارك في أعياد الميلاد بشجرة مضيئة في بيتك كي تعلّم أولادك على ما تبقى من الوحدة الوطنية. وجميل منك أن تدخل دور عبادة «الآخر» في الأعراس والمآتم. لكن انفتاحك سيقف عند هذا الحد. لن تسمح لبناتك بالزواج من أبنائهم؛ ولن تمنح شيئاً من ميراثك لبناتهم وأبنائهم. هذا إذا لم تناقشهم بجنس الملائكة و»مسألة الصلب» — وهنا الإهانة الكبرى والإلغاء. كانت ولا تزال علاقتك بهم «تمسيح جوخ» و»تبويس لحى». أنت تنتمي الى حضارة انطلقت من البادية وتوسّعت فوصلت الى شواطئ الأطلسي وحدود الصين. لك من النساء أربع «إذا» عدلت.. ولن تعدل. وغدُك هو يومُك. نقتني السيارات الحديثة وتفكّر كالجَمَل!
ليس سهلاً في لبنان أن تكون مسيحياً. أساساً لم يكن الأمر يسيراً منذ البداية حتى اليوم. الذاكرة المسيحيّة حبلى بالنجاحات والإخفاقات وحمامات الدم. الخائف عندما يدمن الخوف يصبح مخيفاً. قضية الشرق تكاد تكون قضيتك. والبلد لا جمال فيه من دونك. صفحات سوداء مرّت وانطوت: 1840، 1860 وصولاً الى 1983. صنعت بلداً ساحراً أسموه «سويسرا الشرق»، لكن الحرائق الكبيرة كانت حول الدار أقوى منك. رائع صوت أجراس الكنائس من الشمال الى الجنوب، لكن هناك أيضاً مآذن كثيرة. زمن «الإيديولوجيات» كان مريحاً أكثر لك. اليوم المنطقة، التي قامت على نبي وفرس وناقة ونداء «الرحمن والرحمة»، هي تغلي وتعشعش فيها بعض أشباح ووحوش الموت. صار أصعب عليك أن تكون مسيحياً في لبنان. مرغوب بك أكثر من قبل ومطلوب منك بإصرار البقاء على متن القارب. سيكون عليك حضور بعض الإفطارات الرمضانيّة وسماع الآذان خمس مرات في اليوم. مسكين، يكاد يقتلك حبهم لك! وأنت لا تزال في حيرة بين التمر والكرواسون.
ليس سهلاً أن تكون سنياً في لبنان. خاصة في هذا الزمن الماضويّ. هو ليس لك. ستكون مثل لاعب كرة القدم على خط الهجوم الذي وصل الى مسافة قريبة جداً من مرمى الفريق المنافس وخُطفت منه الكرة على حين غرّة. أنت لاعب جماعة ولست فرداوياً وتلعبها «مكشوفة». وهنا قوتك وضعفك. كانت لك شراكة «الدرجة الثانية» مع «جماعة التأسيس» منذ أيام راشيا. قبلت ببقايا الموائد العامرة وركبت القارب وكبر كرشك رغم كثرة الثقوب في الأشرعة. نمت هنيئاً مطمئناً لوفرة الستينيات وأول السبعينيات. كانت الناصرية وإيديلوجيات الجزيرة العربية رافعتك ومربط خيلك. من خيرات بلاد النخيل والنفط حصدت وكدحت. قلبك طيب. لك عيد الفطر والأضحى والهجرة. لم يهمّك يوماً رأس السلطة: أكان فاسداً أم فاضلاً. بل همك كان ولا يزال: «الرسالة والجماعة». تغيّر الزمن يا رجل؛ وضعت كل زادك في بيروت ومدن الساحل. أحببت بيروت أكثر من اللزوم وهي بدورها أحبتك؛ لكن الزمن غدار. مدينتك جميلة ومغرية ومعجبوها كثر. نسيت أو تناسيت أخاً لك يكاد يختلف معك من الماضي حتى الحاضر. كسر القمقم وخرج ولعبت بينكما السفارات. فبدوت أنت كجمل الصحراء وبدا هو كالفرس. لا هو مستعدّ أو يقدر على التوقف ولا أنت تفتح عينيك من عصف رمال الصحراء.
ليس سهلاً في لبنان أن تكون شيعيّاً. لربما الأمر يبدو سهلاً جداً اليوم. لكنه سيكون صعباً جداً مستقبلاً. أنت تنزف دماً وأرواحاً ذكية منذ رحيل متلقي الوحي حتى هذا الزمن. وهي الفدية الأعز والأغلى. الأضواء كلها مسلطة عليك بعد خروجك من عتمة الماضي الى نور الحاضر. فاجأت الجميع وتكاد أنت أن تتفاجأ أو تصاب بالغرور. قلبك طيب، عفوي، تملك وثبة الماضي ووعي لحظة الفراغ. تفككت الإيديولوجيات وانهارت دول فجمعت قواك وفتحت كتب التاريخ بتفاصيله على مصراعيها. قاتلت أشرس عدو واستبسلت. فارس على فرس كرار وأهل الدار تعبوا وهم بالانتظار! لومك المحق على الشركاء كبير. الرايات كثيرة والحزن المجدد والمكرر مصنع أحقاد! والخلاف بين «أهل الفرس» و»أهل الناقة» في المدينة يعود الى ما قبل ظهور النبي لسنوات يوم كان البيت العتيق يعج بالأصنام (كتاب جواد علي، تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام). حاول أن تختصر الماضي لأن النسيان اليوم يبدو مستحلاً.
ليس سهلاً في لبنان أن تكون درزيّاً. بل ربما وضعك الأصعب. فأنت صاحب مسلك صعب، باطني، غير مكشوف للعوام، وضارب في جذور التراث الفكري والروحاني لبني البشر. أنت الدور وليس العدد. وفي القلة وسط الكثرة يكمن العصب المشدود. وجودك وتنافسك على الحلبة مع الآخرين صعب عليك وعليهم. فمن أجدادك جاءت فكرة تأسيس البلد. حملك ثقيل لسببين: العقيدة التي تقوم على التربية والالتزام الأخلاقي وتلك المسافة المفروضة عليك مع كل آخر مختلف. وتلك المسافة — بل الجفاء — المكتوبة عليك مع الآخر. جميل ما عندكم من تقسيم بين «عقّال» و «جهّال» وفلسفتكم العرفانية الصوفية الراقية تمنحكم مقاربة أسهل وأقل طقوسية في الحياة. محق قولكم: «إن الأمكنة لا تعطي القداسة» وأن «طالب الولاية لا يُولّى». ليس سهلاً أن تكون درزياً في أرض ضائعة بين المادة والروح. كن موحداً منفتحاً على الآخرين كي يعرفك الناس مهما كان الثمن. لأن الناس يجذبها كل غامض مستور.
ليس سهلاُ أن تكون مارونياً في لبنان، لأن كل العيون عليك وعلى كرسيك المشغولة من ذهب. فكل ماروني هو مرشح لرئاسة الجمهورية. مع أهل التوحيد أسستم فكرة لبنان. وكانت بينكم صولات وجولات بداًت منذ 1840 و 1860. كما تتشابهان يصعب أن تميّز بين ماروني ودرزي الى أن يتكلما. ملة محاربة، شديدة الإيمان، صلبة. أصابها الاضطهاد من أبناء دينها في حوران. للموارنة دعم الكرسي الرسولي وخبرية «أن مجد لبنان اُعطي لهم». أن تكون مارونياً بالعقيدة يعني أنك في جدال مع الأرثوذكسية، عدا عن الملل المحمدية. ليس سهلاً اليوم أن تكون ما أنت عليه لأن مَن سبقوك في التجربة ارتكبوا أخطاء مميتة كان أخطرها: «التعامل مع العدو الصهيوني» و»حرب الأخوة» التي جرّت الناس الى اليأس لدرجة أن الرئيس الفرنسي ميتران أعلن نفض يده من لبنان بعد ما عرف بـ»حرب الإلغاء». ليس سهلاً أن تبقى مارونياً والملل الباقية تنافسك في زراعة شجرة الأرز في كل مكان.
كما أنه ليس سهلاً أن تكون أرمنياً، أو بروتستانتياً، أو علوياً أو حتى بهائياً في لبنان. يبقى أن العجيب وسط كل طائفة ذلك التمايز والتفاوت المناطقي اللافت. فأين سنة بيروت من سنة عكار وطرابلس والبقاع وصيدا وشبعا وإقليم الخروب؟ وأين شيعة بيروت من شيعة جرد جبيل وشيعة الهرمل والبقاع والجنوب وبرج البراجنة؟ وأين دروز بيروت من دروز عاليه والجرد وراشيا والشوف؟ والأمر سيّان بالنسبة لبقية الملل والنحل.
يبقى السؤال: ما هو السهل في لبنان؟
السهل أن يكون الإنسان اللبناني مؤمناً غير متعصبٍ. متمسكاً بدينه كجسر عبور وتواصل وليس كمغارة معتمة. أن يحطم كل تلك الجدران العالية التي بنتها من حوله طائفته عبر الدهور كي لا يرى غيره. السهل في أن يكون الإنسان إنساناً اجتماعياً نهضوياً قبل كل شيء. أن لا يضع مذهبه أو طائفته قبل إيمانه وانتمائه الإنسانيّ؛ وإلا يكون كمن يضع العربة أمام الحصان.
اترك شعاراتك الدينية في بيتك ولا تخرجها معك الى المجتمع، لأن في ذلك صداً لأي تواصل مع أبناء بلدك. فالشعارات الدينية والرموز (قرآن.. صليب.. سيف ذو الفقار..الخمس حدود..) هي في القلوب وليست على الصدور أو للسيارات أو أبواب المنازل أو مداخل البنايات أو الشوارع العامة.
فـ»العقل الضيق يقود دائماً الى التعصب» (أرسطو).
*روائي من لبنان.